ظلال رجال في امرأة
كانت أمسيات الخريف الريفيّة مثقلة بمزيج من الذكريات والتوقّعات، وترقّب ما قد يحصل بسبب الأحداث المتسارعة في ٢٠١٢. أمّا الذكريات فقد كانت مثل مسلسل يومي قُبيل النوم، ترويها أمّي عند أوّل فرصة أُلمِّح فيها عن شكل الحياة أيّام زمان.
مثل الآلاف من سكّان المدن الذين نزحوا إلى القرى بسبب القصف و الاشتباكات المسلّحة، ذهبتُ للعيش مع أمّي في قريتنا التي كنت أزورها فقط في المناسبات، وقد عادت القرية كما كانت قبل ٤٠ عاماً، لا كهرباء ولا ماء، لقد تغيّر كلّ شيء إلّا موسم قطاف الزيتون لم يتغيّر، كان يأتي في أوانه ولم تكن أمّي لتتوقّف عن المشاركة في مواسم القطاف، رغم أنّها لم ترث من جدّي و لا من أبي شجرة زيتون واحدة! كانت تطلب من الجيران مرافقتهم لجني الزيتون، مقابل صفيحة زيت وزيتون أخضر وعطّون.
لم يكن الجيران يرغبون في اصطحابها معهم احتراما لسنّها، بل يعرضون عليها تلك العطايا دون أن تعمل، لكنها كانت ترفض لأنّ تلك الطقوس بالنسبة لها كانت أهم من عطاياهم. في إحدى المرات قالت للجار الذي سترافقه إلى القطاف: (احسب لي أقلّ من العمّال العاديين، رضيانة).
وبما أنّ كلّ شيء كان قليلاً، لم نكن نشعل مدفأة الحطب إلّا بعد المغيب، فنأوي إلى الفراش باكراً، ونتمدّد بشكل متعاكس، لنتمكّن من تدفئة أقدامنا أوّلا، ونتابع السمر، إذ كان يحلو لأمّي الحديث عن أيّام العزّ والجاه الذي عاشته في صباها.
في غمرة استرسالها عن العزّ الذي كانت تعيشه في بيت جدّي وهي الفتاة الأصغر في العائلة القليلة العدد، كنت أعجب لماذا لم يخلّف جدّي أولاداً كثر، كما كان معهوداً في ذلك الزمان. لكنّني لم أتعجّب من مقولة أمي:(منيح ما كان عندي أخوة كتار)
امتلك جدّي أراضي شاسعة زرعها بنفسه مستخدماً المحراث القديم، ولطالما كانت أمّي تردّد بأنّ لها الفضل الأكبر في خدمة تلك الأراضي منذ أن كانت طفلة، حيث إنّ أخاها الوحيد يدرس في المدينة، وأختها قد تزّوجت، ولم يكن جدّي ليتحمّل تكاليف المحراث لكي يوفّر المال من أجل دراسة ابنه الوحيد، وهي كانت الذراع الأيمن لجدّي: (كنت ذراع أبي اليمين و كان دايما يقول بس لو كنت صبي كان بالناقص من إيد أو ساق)
أمّا عندما يصل مسار الحديث عند أبي كانت تردف: (كان أبوك عصبي وأحياناً يضربني لكنّه كان لبيته وأولاده، كان حنون!!).
ثم لا أتذكّر بقيّة الحكاية التي سمعتها مراراً عن خلافاتها الدائمة مع جدّتي؛ ومشاكل الإرث مع خالي، الذي ورث كلّ أملاك جدّي مستخدماً حِيَلاً قانونيّة ومستغِلاً طيبة شقيقاته للتنازل له عن حصصهنّ حتى لا ترث زوجة أبيهم شيئا!
كان خيالي يأخذني إلى تصوّر مصائر جمّة لأمّي، كأن أفكّر لو لم يكن ذاك الرجل والدها، والآخر أخوها والأخير زوجها! ربّما كان وضعها غير ذلك، وربّما كانت أمّي لتدرس مثل خالي، وتعمل وتتقاعد ولن تكون بحاجة أحد لإعالتها!
وماذا لو كان أبي مثل جدّي الذي غضب من جدّتي في إحدى أمسيات الشتاء بعد عودته من الحقل ولم تكن جدّتي قد ربطت الحمار الذي أكمل مسيره فسقط الحمل عن ظهره، فتبلل كلّ ما كان على ظهر الحمار بسبب المطر، فما كان من جدّي إلّا أن شتم جدّتي و ركلها في خاصرتها، ما أدى إلى تفجّر الزائدة الدوديّة عندها، وبسبب قلّة المواصلات، و ندرة المراكز الصحية في قرى عفرين البعيدة عن المركز، لم يتمّ إسعافها سريعاً. بعد بضعة أيّام نقلوها إلى حلب ولكنّها فارقت الحياة بعد معاناة دامت قرابة أسبوع. هكذا دونما سرد تأتي تلك القصة في مخيلتي السابحة بين الصحوة والنوم، وأغرق في شرودي عن نهايات مختلفة للبانوراما التي كانت ترويها أمي عن حياتها قبل الزواج وبعده. إلى أن أستيقظ على صوتها الرقيق المفعم بالحياة والأمل يناديني: (قومي يا بنيتي الشمس طالعة والقهوة جاهزة).
نضال جوجك
شبكة المرأة السورية