آمال عنتابلي شيخ دبس
اعتناقات الأهل وأفكارهم وسلوكيّاتهم هي الأسس التي تُبنى عليها شخصيّة الأبناء، فالطفل في طبعه التقليد، ويعتبر أبويه قدوة له في الحياة، فيتبنّى فكرهما وتصرّفاتهما ويحاول التقليد، وما إن يلتحق بالمدرسة و ينهل العلم و يقرأ الكتب ويطّلع على ثقافات مختلفة، تتوسّع دائرة معارفه، و ينضج إدراكه، ومع الوقت يشعر غالباً بالاستقلاليّة الفكريّة، وتتبلور عندها شخصيّته.
ولكن الفتاة التي تُحرم التعليم وتنشأ في بيئة جاهلة ومتعصّبة ومنغلقة ستكون نسخة عن مجتمعها الضيّق المقيّدة فيه.
قصّتنا اليوم تدور حول ماجدة، عندما تعلّمت كتابة الحروف الهجائيّة أُجْبرت على ترك المدرسة لتتقن ترتيب البيت وتنظيفه وتتعلّم فنون الطبخ، وما إن بلغت الثالثة عشرة من عمرها حتى تقدّم شابّ للزواج منها.
سمير يكبرها بعشرين عاماً، يتعاطى الخمر، ومعروف بقسوته وضربه لكلّ من تجرّأ وخالفه، متغطرس وسليط اللسان، يملك دكّاناً يبيع فيها الخضار والفواكه، وافق أهلها عليه عندما دفع المهر الذي حدّدوه وموافقتها طبعاً أمر مفروغ منه بعد اقتناعهم به.
وإن كنت أنسى فلن أنسَ ما حييت ليلة زفافها، فهي عنوان للذلّ والإهانة، للكرامة التي سلبت منها وللأمان الذي اغتيل وهو في المهد.
دخلا يومها عشّ الزوجية وانتظرت أمّها الخبر المرتقب في بيت أخته المجاور لبيته.
عادة سيّئة ومهينة، ربّما تقلّصت في الوقت الحالي، ولكن لابدّ للتطرّق بعض الشيء لأسباب انتشارها، فقد كان الدارج زواج القاصرات غير الواعيات، والزواج مع فارق السنّ الكبير، لذلك كانت معظم الأمّهات يصبن بالقلق والخوف على بناتهنّ، كما أنّ الحرص على أخذ علامة الشرف بأسرع ما يمكن كانت الدافع أيضاً لمرافقة أمّ العروس لابنتها.
المهمّ ان العريس بعد دقائق معدودة، خرج كوحش ضار، تستره قطعة صغيرة، يتطاير الشرر من عينيه، يكسو ملامحه الاستغراب المبطّن بتساؤلات واتّهامات وهو يصرخ في وجه والدتها بأنّ ابنتها ترفض خلع ملابسها، فهرعت الأم إلى الطفلة الزائغة النظرات وطلبت منها تنفيذ أوامره.
دقائق ثم عاد ليرمي قنبلة الشرف على مسامعها بأن ابنتها ليست عذراء. تفكيرها المنطقي لم يعد يعمل فركضت سنين لتصل إلى ماجدة وتصفعها، رأتها تبكي وجسدها ينتفض رعباً وهلعاً، طفلة لا تعي من الزواج شيئاً، ولم تكن ترافق أبويها في زيارة الأقارب ولا تواجه الذكور، تمنّعت خجلاً وحياء، وأبت أن يلامس جسدها، وهو بغبائه وجهله حكم عليها حينما رفضت.
لم يخطر ببال الأم أنّها السبب فيما يحدث من انتهاكات لإنسانية ابنتها ولمشاعرها ولطفولتها البريئة، لم تكن تعي أنّها تتشارك وزوجها في جريمة تزويج هذه القاصر، كلّ ما كان يهمّها سمعتهم، لذلك لم تضمّ ماجدة إلى صدرها وتقبّلها ولم تمسح دمعها وتواسيها ولم تشرح لها واجباتها كزوجة ولا حقوقها التي هي أيضاً تجهلها.
لم تؤنّب العريس على سوء تصرّفه في هذه الليلة المميّزة، ولم تصفعه بدل أن تصفع ابنتها وتؤكّد له بأنها واثقة من تربية ابنتها ومن أخلاقها، فقط صفعتها وهي تأمرها بالانصياع له في كلّ ما يطلب وخرجت لتنتظر مجدّداً انجازاته.
بعد دقائق ليست بالطويلة جاءها العريس بالبشرة وأشار إليها بيده أن تمام.
مضت إلى ابنتها، وجدت جثّة فتاة مطويّة اللحم في زاوية الغرفة، عارية تحاول ستر جسدها بيد مرتجفة ونظراتها زائغة واحمرار وجهها صبغ الشراشف المحيطة بها.
بكت ماجدة طويلاً في تلك الليلة وفي ليال كثيرة عبر السنين التالية، حيث تحوّلت إلى طبّاخة وخادمة، كلّ ما يترتّب عليها هو تحضير الطعام والغسيل وتنظيف البيت وترتيبه وتحميم الزوج والتموين للشتاء، ثمّ في آخر الليل تتحوّل إلى وعاء لإفراغ شهوته وغريزته الحيوانيّة حيث يعلو شخيره بعد أن ينام فلا يسمع صوت حنينها وشوقها لكلمة حبّ أو لمسة حنان أو نظرة ألفة، ويعلو شخيره أكثر إذا مرضت كيلا تطلب منه كأس ماء أو مساعدة بأي شيء فهو الرجل الآمر الناهي في البيت ومساعدتها تعتبر خدمة لها، هذا طبعاً ما علّمته إيّاه والدته وأكّده عليه والده.
وبكت طويلا حينما خسرت طفلها الأول فجسدها الطفولي لم يتقبّل الجنين وأجهضه وهو في شهره الأوّل.
وبكت لأسابيع حينما سمعت حماتها تعده بالزواج من غيرها مالم تنجب سريعاً.
كان زوج ماجدة ميسور الحال، من وقت لآخر يصطحب شنطة دبلوماسيّة مكتظّة بالأوراق النقديّة، ولكن لم تكن تجرؤ على سؤاله عمّ يملك أو عن عمله وشركائه، وهو كان أكثر تحفّظاً منها، وكأن هذا الأمر سرّ من أسرار الدولة الأمنيّة.
حينما وصلت الثورة إلى حلب، استقرّت رصاصة قنّاص في رأس زوج ماجدة فحوّلته إلى جثّة هامدة، وسقطت قذيفة فوق دكّانه فحوّلته إلى ركام.
بعد خمس عشرة سنة وجدت ماجدة نفسها وأطفالها وحيدة دون معيل ولم تعثر على أية ورقة قد ترشدها لأملاك زوجها أو شركائه.
رصاصة القنّاص، والقذيفة، وتدنّي مستوى المعيشة، وتدهور الاقتصاد في سوريا، وانقطاع الكهرباء والمياه و..و.. كلّ ذلك لم يكن السبب في انكسار ماجدة وبؤسها وتحوّلها إلى حطام مبعثر!
وبرأيي إذا لم نعمل على زيادة وعي النساء، ولم نسع لتمكينهنّ اقتصاديّاً، فسنصادف أكثر من ماجدة واحدة في مجتمعنا، تجهل حقيقة ما يجري حولها، وتبقى أسيرة الظروف وأسيرة جهلها.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”
2 Responses
سلمت يديك عزيزتي آمال …الموضوع الذي تناولتيه في مقالتك هام جدا وطالما عانت منه الفتيات .
كتاباتك تتميز بالموضوعية والصدق دائما،وخاصة في المواضيع الاجتماعية التي تطرحينها في مقالاتك…سلمت يداك.
رأيك اعتز به، وحقيقة مثلما ذكرتِ أ.غادة جمعة فهذا الموضوع كثيراً ما عشناه وحتّى بطلة قصّتي أعرفها وقصّتها من صميم الواقع …