هبة هنداوي*
يقولون إن الكتابة تحرر الألم وتساعد الجسم والنفس على التخلص من المشاعر السلبية التي تعصف بهما. لكنها ليست الوسيلة الوحيدة للبوح، فقديماً كانت النساء يجتمعن ويحكين لبعضهن البعض كل ما يجيش في صدورهن، إما طلباً للنصيحة أو تبادل وصفات الطهي أو الخبرات الحياتية أو تنفيساً عن النفس بالشكوى من الزوج أو الأهل أو لمجرد السمر. كانت دوائر البنات والسيدات لا تنتهي في الحي والأسرة. تتحلق البنات الصغيرات معاً وتتحلق أمهاتهن وعماتهن وخالاتهن وجاراتهن، وتعج كل حلقة بالضحك أو البكاء. في عصور ما قبل الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها كانت الجلسات النسائية الوسيلة الوحيدة للبوح.
بمرور الوقت اتسعت دائرة المرأة المعرفية والمجتمعية وانتقلت من جلسات الحي إلى جلسات الجامعة والعمل العام. وبتطور خبراتها تطورت معها قدراتها والتحديات التي تقابلها فأصبحت جزءاً أصيلاً من المجتمع يثبت حضوره وفاعليته في كل مكان. لم تعد تكفيها الجلسات النسائية ضيقة الأفق ومحدودة التأثير، فوجدت سبيلها في الكتابة. قررت أن تمتد دائرة تأثيرها لتشمل كل من تصلهن ما تكتبه. أتاحت الكتابة مجالاً واسعاً للتعبير عن الذات وتأمل الواقع وتخطيط الأحلام.
كتبت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان عن رحلتها الصعبة في الحياة في (رحلة صعبة، رحلة جبلية). وكتبت عائشة عبدالرحمن بنت الشاطيء سيرتها في (على الجسر بين الحياة والموت). أما رضوى عاشور فكانت الكتابة عن الذات لصيقة بها في كل مراحل حياتها منذ أن كانت طالبة في (الرحلة: مذكرات طالبة مصرية في أمريكا) وحتى رافقتها في كفاحها لمرض السرطان، الذي ختمت به حياتها الأدبية بسيرتين من أروع ما كتب (أثقل من رضوى) و(الصرخة). تصف رضوى الكتابة بأنها: (لعبة فنية مكنتني من كتابة سيرتي بشكل جديد وكتابة رواية سيرة تتيح نقل تجربتي ووقائع عشتها ووقائع لم تحدث لي شخصياً لكنها جزء من تجربتي).
وكانت التجارب الشخصية كتجربة رضوى حافزا لأخريات للحكي ومشاركة معاناتهن مع غيرهن من النساء علها تكون يد عون تحنو على من يقاومن من أجل البقاء. في كتابها ( بدون سابق إنذار) كتبت أنيسة حسونة وهي نائبة برلمانية عنت بالعمل الخيري ورحلت عن عالمنا في 2022 عن تجربتها مع مرض السرطان الذي اقتحم حياتها دون سابق إنذار فقلب حياتها رأساً على عقب. تحكي أنيسة وتستفيض ذاكرة مشاعرها وأيامها وعزيمتها على الانتصار. وكذلك فعلت غادة جاد في (الأنثى التي أنقذتني) في مشاركة قصتها المماثلة مع سرطان الثدي الذي تغلبت عليه بنجاح فكانت التجربة وكان الكتاب.
أما تجربتي الشخصية في الكتابة فبدأت بسبب مرض عظام نادر قوض حركة صغيري ذي السبعة أعوام. بين عشية وضحاها انقلبت طفولة مفعمة بالحرية والنشاط لعرج وألم. رحلة مضنية بين عيادات الأطباء ومراكز الأشعة كشفت تآكلا في رأس عظمة الفخذ. بلا سبب معلوم يحدث قصور في الدورة الدموية المغذية للحوض في الأطفال دون سن البلوغ. حالة نادرة لا علاج لها ولا سبيل لمنعها. تعددت آراء الأطباء وزادت معها الحيرة. مرض نادر لا اتفاق طبي على التعامل معه، بل كلها اجتهادات للحفاظ على المفصل المتآكل داخل تجويف الحوض. استيقظ الصغير ليجد نفسه ممنوعاً من الجري والقفز وركل الكرة. لقد تم تجميد سنوات طفولته وتوقيفها عن العمل إلى أجل غير مسمى.
بين تكذيب وتصديق كان علي كأم مواجهة الواقع. ومن الاستعداد للسفر برفقة الأب للدراسة في الخارج تبدل الحال وسافر هو وبقيت الأسرة وحدها تواجه مصيراً مجهولاً. لابد من شرح الأمر للطفل واحتواء خوفه وحزنه. يقولون إن اختلاف العلماء رحمة لكنه لم يكن كذلك في هذه الحال. كان الاختلاف في الآراء باب حيرة عصفت بالذهن وأربكته. مرض “تنخر العظام” المعروف عالمياً باسم “ليج كالفيه بيرثيز”؛ ضيف ثقيل حل على حياتي أنا وابني ولابد من أن أحسن ضيافته مرغمة. لجأت لوسائل التواصل الاجتماعي. اللغة جسر قوي نافذ يربط بين البشر ويحقق التواصل دون قيود. هل اختار لي القدر أن أكون مترجمة من أجل هذه اللحظة؟ ماذا لو لم أكن أتقن لغة غير لغتي الأم؟ سبرت أغوار الإنترنت وتواصلت مع مجموعات الدعم. لا توجد معلومات كافية عنه باللغة العربية لذا كان الحل في اللجوء للغة الإنجليزية. بحث ودراسة ونقاش وتبادل آراء. تسعة أطباء تمت استشارتهم حتى كان القرار الأخير لحماية المفصل الذي بدأ يتحرك من موقعه مسبباً المزيد من العرج. التدخل الجراحي أصبح أمراً ملزماً. ثلاث عمليات جراحية مختلفة وعلي الاختيار من بينهم. الأمهات الزميلات عبر الأثير لم يبخلن برأيهن ولا دعمهن.
القرار الأمثل هو تركيب مثبت معدني خارجي يحفظ عظم المفصل في التجويف ويهييء مكانا مناسباً تنمو فيه العظمة من جديد بعد عودة الدورة الدموية مرة أخرى. خمسة أشهر كان علي الحفاظ على نفسية طفلي وعظامه سواء بسواء. أفراد الأسرة الباقون ملزمون مني أيضاً، منهم من هو في الثانوية العامة وأم مريضة عاجزة عن الحركة. يشتد الألم وتتكالب علي الهموم. كنت أعاني في صمت. أرسم ابتسامة رضا بينما تتمزق كل خلية في جسدي. تنتهي فترة التثبيت المعدني تليها فترة علاج طبيعي يومية. أحمل طفلي في رحلة يومية لحمام السباحة كما أحمل بداخلي الكثير من المعاناة الصامتة.
أقرر الكتابة ومشاركة التجربة والمشاعر والإحباط والفرحة. (أنا وابني وست أرجل)، الصادر عن دار الشروق المصرية، أول كتاب يناقش مرض “تنخر العظام” عند الأطفال في الوطن العربي. أخيراً أصبح لدينا مصدر موثوق باللغة العربية. ثم كتبته باللغة الإنجليزية امتناناً وتقديراً لمن ساعدوني من غير العرب. تعافى الولد وانتهت فترة المرض. لدي الآن خبرة كبيرة وقلب أكبر. أسست مجموعة دعم لأهل الأطفال في الوطن العربي. كنت وحيدة يوماً واليوم أنا مع الجميع يداً بيد.
أكتب ويقرأون. كنت يوماً تائهة مثلكم وحيدة وخائفة واليوم اتضحت رؤيتي وأحمل لكم الشعلة لتروا الضوء في آخر النفق. (أيها الابتلاء شكرا لك)! عبارة كتبتها في سيرة ذاتية لفترة من أصعب فترات حياتي. لكنني وبعد أن فتح لي هذا الابتلاء آفاقاً رحبة وكونت بفضله صداقات عديدة وخطوت أولى خطواتي في عالم الأدب، كان لزاماً علي أن أشكره وأدين له بالفضل في الكثير من التحولات في حياتي. (أيها الابتلاء شكراً لك! نعم شكراً لك لأنك منحتنا القوة والإصرار وعلمتنا معنى العزيمة. أيها الابتلاء شكراً لك لأنك أخرجت طاقات لم نكن نعلم بوجودها من الأساس. لقد اشتدت الغيوم وأظلمت السماء يوماً ولم نكن نتخيل أن الغيث سيسبغنا بالنعم بعدها)!
* كاتبة ومترجمة
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”
One Response
It’s actually a nice and useful piece of info. I am glad that you just shared this
useful info with us. Please keep us informed like this.
Thank you for sharing.