د. صباح ضميراوي
لم يعد بإمكانه تحمل شظف العيش وقلة الرزق، فحزم أغراضه اليسيرة ورحل. في غربته كان يعمل بكد وتعب، لا شيء سوى العمل حتى في أيام العطل والأعياد. كان همه ان يعمل ليرسل لزوجته وأولاده آجار البيت وقيمة لقمة العيش، ولو بحدها الأدنى، وبقي كذلك عاماً او بعض عام. ولكن تجري الرياح بمالاتشتهي السفن، كما يقولون، فقد توقف المعمل الذي كان يعمل فيه بسبب جائحة كورونا، وجلس محجوراً في غرفته المتواضعة منتظراً الفرج. ولكن طال الوقت ونفذ كل ما لديه من مال، حتى أجرة الغرفة الصغيرة التي كان يقيم بها أصبحت عبئاً عليه، فطلب من صاحب المعمل أن يسمح له أن يقيم في بيت حراسة المعمل ريثما يأتيهما الفرج ويعود المعمل للانطلاق. وكان له ذلك، ولكن ماذا يفعل بالافواه التي تنتظر دعمه وعمله، لم يعد يتصل بهم، كان خجلاً من نفسه ووضعه وهو في غربة قاسية لايعرف فيها أحداً، ولا يستطيع تأمين قوته لوحده، فانقطعت أخباره عنهم.
حاولت زوجته حميدة الاتصال به ولكن دون جدوى في بلاد الغربة بعيدة، ولم تعد تسمع شيئاً عن اخباره، وفكرت ماذا ستفعل من أجل أجرة الدكان التي حولها صاحبها لغرفة للسكن؟ وصاحب الدكان جشع وبدأ بمطالبتها بأجرة الدكان – الغرفة، بعد ان حاول التحرش بها ورفضت وهددته بالفضيحة وهو التقي الورع في الحارة، فماكان منه إلا أن طردها هي وأولادها الأربعة، وأعطاها مهلة أيام قليلة للمغادرة، فما كان منها إلا أن ذهبت لأحد المخيمات للحصول على خيمة وبعض التبرعات، التي استطاعت الحصول عليها بعد جهد جهيد وانتقلت هي وأولادها الأربعة الى هناك، لتنتقل من تحرش صاحب الدكان لتحرش أقسى وأشد من مدير المخيم الذي كان في العلن يطلب منها ومن بقية النساء وضع النقاب اذا خرجن من المخيم حرصا على الشرف والعفة، ويحاول أن ينال منها ومن غيرها من النساء في الخفاء متستراً بلحية كثة وبصلاة لا تنقطع في كل الأوقات. وعندما صدته بدأت السلة الإغاثية الشهرية تتأخر، حتى المياه التي كانت توزعها المنظمات الإنسانية بدأت تنقطع أحياناً، أما وجبة الطعام التي كانت توزعها إحدى المنظمات يومياً، فكان نصيبها منها النذر اليسير والتي لا تكفيها وأطفالها الأربعة، وكم من مرة اوهمت أطفالها بأنها تأكل ريثما يشبعون قبلها.
فكرت حميدة أين ستذهب؟ فقريتها لم يبق منها إلاّ إسمها، حيث تهدمت كل بيوتها، حتى أهلها واقرباؤها تشتتوا في بقاع الأرض ولا من معين. فكرت بالعمل لتحافظ على شرفها وكرامتها، فنزلت الى سوق القرية المجاورة للمخيم الذي تقيم به لتبحث عن عمل. لكنها علمت أنها إن طلبت عملاً عند أحدهم فستنتقل من ظلم الى ظلم ومن تحرش إلى آخر، لذا فكرت أن تشتري بعض المواد الإستهلاكية لتبيعها في المخيم، و طلبت من بعض بائعي الجملة أن يعطوها بعض المواد ديناً، ووعدت بأن تدفع لهم في نهاية كل أسبوع. رفض الأكثرية عرضها فهم لايعرفونها ويخافون على رزقهم، كما قالوا لها.
اسودت الدنيا في عينيها ولم تعد تدري ماذا تفعل. وفي إحدى جولاتها في سوق القرية تذكرت أن إحدى الصيدليات في تلك القرية لصيدلي من قريتهم وكانت تربطه بأخيها زمالة مدرسة، فذهبت اليه وترجته أن يكفلها عند بائعي الجملة، فرضي بعد رجائها وإلحاحها واقتناعه بحاجتها، وبدأت تنقل البضاعة هي وأولادها إلى كشك صغير بالقرب من خيمتها، حتى أن الصبية التي تعمل بالصيدلية التي كفلتها وعدتها أن تعطيها الدواء الذي يحتاجه أهل المخيم ديناً، مع مراعاتها بالسعر كي تربح منه قليلاً.
ودارت عجلة الزمان مع هذا العمل، ومع مرور الأيام استطاعت أن تؤمن حاجات عائلتها التي كانت يداً واحدة بالعمل معها، واستطاعت مع الوقت ان تكسب ثقة من تعاملت معهم من التجار.
قررت حميدة ترك المخيم، واستأجرت بيتاً صغيراً لها ولأولادها الأربعة، حيث حولت إحدى غرفه لدكان لبيع بضاعتها، بعد أن اكتسبت خبرة لا بأس بها في هذا المجال. وهكذا تعاونت الأسرة على إزالة قسوة الحياة والنزوح والغربة، لكن أولادها لم يذهبوا إلى المدارس لأن عملها كان كفاف يومها واياهم، بعد ان ضاعت أخبار الزوج عنها نهائياً، والذي ربما تزوج في الغربة أو مات أو مرض. فهي لا تعرف عنه شيئاً وتعيش غربتها الأليمة مع أولادها الذين تقاسمت معهم شظف العيش وحلو الحياة ومرها.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”