بيروت – غالية الريش
في غمرة انشغال العالم بوباء كوفيد19، وتراجع العالم عن معالجة ملفاته الساخنة بحرارة الاهتمام بالطارئ المستجد، سكب بسام حلاق اللاجيء السوري المقيم في البقاع الأوسط بلبنان مادة البنزين على جسده وأضرم فيه ناراً لم يقاومها هارباً. استغل نوم زوجته في صالون البيت الذي كان غرفة نومهما فيما تقاسم ولداه وعائلتاهما الغرفتين المتبقيتين من المنزل المستأجر. لم يكن عدم سداد آجار البيت وحده هو الدافع المباشر وراء الانتحار. لم تكن العائلة مهددة بالإخلاء كما جرى التداول.
خبر صغير مرّ على عجل في وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي مطالع شهر نيسان، ترافق مع فيديو اندلاع النار في جسد الرجل.
مات الرجل محترقاً بعد ساعات انتظار موت مريرة ، أكثر من سبع ساعات نازع خلالها. كان من المتوجب نقله إلى مشفى متخصص بالحروق، لكن النقلة دونها “موافقة” المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي جاءت متأخرة، ودونها موافقة المشفى الذي أحيل إليه الذي طلب بدل تأمين بقيمة مليوني ليرة لبنانية، وهو مبلغ كما يقول نجله لو امتلكته العائلة لما فقدت معيلها.
كأن هذا الجسد المحترق، الذي واجه قبل موته المحتوم، كل صنوف عذابات اللجوء والتكيف ،مع بيئة اقتصادية واجتماعية طاردة له بالمعنى الاجتماعي والانساني، خلال سنوات اللجوء ( منذ2014)، بيئة لاترحم في أعبائها وتكاليفها المادية والمعنوية، أراد أن ينقل رسالته الأخيرة وهو يحترق مع وفرة وسائل الاتصال والمناشدات لأوضاع اللاجئين وهي تغرق في الصمت والتجاهل يوما بعد يوم، وزادها تجاهلاً انشغال العالم بالوباء، الذي فاقم الأمور سوءاً عليه، ولكل أحوال اللجوء السوري في لبنان.
يعكس انتحار بسام الأوضاع العامة لمئات آلاف اللاجئين السوريين الذين أغلقت أبواب العمل في وجوههم، أمام تضاؤل فرص العمل جراء الأزمة المالية الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ سنوات، وما ترتب عليها من سياق ثوري بعد السابع عشر من تشرين الأول 2019.
أغلب ورش عمال البناء توقفت عن العمل. تلك الورش التي تشغلها العمالة السورية على الأغلب منذ عقود أي قبل الـ2011( بسام كان نجار باطون وقد توقف عن عمله منذ سنتين).
الأزمة الاقتصادية ألقت بظلالها أيضاً على القطاع السياحي الذي يعتبر أحد أهم مصادر الدخل الوطني في لبنان. هذا القطاع قذف بآلاف العمال السوريين وغير السوريين إلى الشارع.
حتى المشاريع الصغيرة التجارية أو نصف الصناعية التي استمرت في العمل اعتمدت على تخفيض الأجور بنسبة 25%-50% ، أو العمل المياوم حسب الطلب. ومع كل تلك الظروف المجحفة كان العامل أو المستخدم السوري يوافق على الشروط التي أملاها عليهم أرباب العمل للحفاظ على فرصة العمل، والحفاظ على مصدر للدخل على قلته، على أمل أن تتحسن الظروف وتتحسن معه أجورهم المنخفضة بالأصل.
ركود اقتصادي
مع أهمية ماجرى في لبنان بعد17تشرين الأول2019، إلا أن تلك المجريات كان لها منعكساتها السلبية على أوضاع عموم السوريين، خاصة مع حالة الركود والانكماش الاقتصادي. فضلاً عن تدهور قيمة العملة اللبنانية قياساً على الدولار الأمريكي، وانعكاس ذلك تضخماً أثقل كاهل السوريين مع محدودية مواردهم ومدخراتهم المتواضعة التي نفدت خلال الأزمة.
يدرك الآباء صعوبة أن يهجر أبناؤهم مقاعد الدراسة وتوجههم لسوق العمل، رغم صغر سن الأبناء وعدم ملائمتهم الجسدية لصنوف من الأعمال، التي تحتاج لقوى عضلية وجسمية شابة.
دائماً كان هناك حرص عند غالبية العائلات السورية على متابعة تدريس أبنائهم. وفيما توزعت المدارس بين قطاع حكومي عام توزع أغلب التلاميذ السوريين في صفوفها، وقطاع مدرسي خاص كانت تتوزعه أبناء العائلات المقتدرة نسبياً. لكن هذه الأعداد الغفيرة من الطلاب بدأت بالتراجع أمام ضغط مصاريف التعليم، واضطرار الأهالي للتغاضي عن تدريس أبنائهم ودخولهم سوق العمل كمصدر مهما بلغت ضآلته من مصادر دخل العائلة.
ما بعد الحظر
في الأسر السورية، وحتى في فترة ماقبل الجائحة وفرض الحظر، أي مع اشتداد الأزمة الاقتصادية كنت تلحظ انتشارا لأفرادهاً وفي أعمار متفاوتة في سوق العمل.
بالنسبة لعائلة متوسطة الأفراد/5/ أفراد – وفق حالة عيانية- حيث يعمل الأب في معمل للمعجنات والباتسري براتب 500 دولار، ويعمل ابنه محمد(15) سنة في مجمع للخضار والفواكه أما علي (10) أعوام فيعمل في سوبر ماركت قريب من البيت، فيما الزوجة والابنة تعملان الأولى في ورشة تحضير عصائر للفواكه، والثانية ” كاشير” في فرن. الأزمة الاقتصادية أدت إلى فصل الأب عن العمل، بعد أن كان يتقاضى نصف الأجر المتفق عليه، ومثله زوجته التي وجدت نفسها أيضاً خارج العمل مع انحسار مبيعات المؤسسة التي تعمل فيها، بعد اضطرار المؤسسة لتخفيف أعباء أجور العاملين فيها.
هذه الحالة العيانية تمثل مقاربة لأغلب أوضاع العائلات السورية التي انسدت أمامها كل السبل، فلا هي قادرة للعودة إلى سورية ولا هي قادرة على الرحيل إلى أوروبا ( قبل الكورونا). لدى الكثير من العائلات أمسى اللجوء المؤقت في لبنان دائماً ومريراً مع تخلي مفوضية اللاجئين والمجتمع الدولي عن قضيتهم.
المفوضية السامية … تخاذل وتهرب من المسؤوليات
لم ينتحر بسام حلاق. نحرته ظروفه القاهرة التي قادته إلى مصيره المأساوي فوق مأساويته. تتحمل مسؤوليته المباشرة مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في لبنان، تلك المؤسسة الفريدة في بنية فسادها المسيج بالأسرار، والاستيلاء على مقدرات اللاجئين من أموال وتقدمات بشهادة آلاف العائلات السورية التي ترزح تحت الفقر والفاقة.
عائلة بسام حلاق مع آلاف العائلات خارج المخيمات في لبنان لم تستفد من تقدمات المفوضية إلا بالنذر اليسير، وهي – أي المفوضية- موضع إدانة وإتهام بالتخاذل رغم إدعائها ومزاعمها بالقيام بمسؤولياتها وواجباتها.
“لأننا لم نسكن في خيمة … نحن لانستاهل الدعم”، أجابونا مرات عديدة، يقول ابنه هيثم ويضيف: “مات أبي بعزة نفس”.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”