ريف حمص – جورج ميخائيل
تتعايش البشرية في السنوات الخمسين الماضية مع العديد من الأوبئة والفيروسات المستجدة من الإيدز وإنفلونزا الطيور مروراً بالإيبولا والسارس 1.
ولكنها مع الكورونا، والذي يصنفه الأطباء سارس 2 المعدل، انكشف العالم بأنظمته المتعددة وبان قصوره في التنبؤ وعجزه في أخذ الاحتياطات الصحية وفي توفير الخدمات واللقاحات الوقائية لأبنائه.
تبدو البشرية غير متقبلة للتعايش مع فيروس الكورونا، بل وستخوض حروبها المتعددة على كافة الصعد ضد هذا الوباء العالمي.
إن الأوبئة كما الحروب، تنتج واقعاً جديداً، ويترسخ هذا الواقع بفعل الزمن وبفعل آثار ديمومة مفاعيل الوباء والتحديات التي يخلقها والنتائج المترتبة على مدى استجابة البشر للمواجهة.
في بلادنا، التي لم تستطع حتى الآن الخلاص من آثار الحرب والعنف المدمرين والتي انعكست على كل مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للسكان، استفاقت فجأة على استحقاق جديد لوباء ينتشر في كل العالم مع كم هائل من التعاطي الإعلامي معه، استحقاق انكشف المجتمع المحلي أمامه وبانت صور العجز والخوف، كما برزت المعيقات الموضوعية في مواجهته، وانكشفت الذات الاجتماعية للأفراد امام المخاطر العظيمة.
إن آثار صدمة الكورونا وانكشاف المجتمع، وخصوصاً الأسرة في ظل غياب أمان غذائي وخدمات صحية متطورة ووقائية، ترافقت مع غياب عملية تربوية بديلة مما أثار الانتباه إلى هذه المواجهة غير المتكافئة والندية بذات الوقت بين الوباء والأسرة كخلية مستهدفة للعدوى والانتشار، إن هذه الآثار ستبقى عالقة بالوجدان وفي التاريخ وفي سجلات البيانات الدولية والحكومية والإنسانية.
الأسرة تكتشف ذاتها: إن تبدلا وظيفيا وتغيرا حتى في أنماط السلوك النفسي والاجتماعي والاقتصادي طرأ على يوميات السوريين والسوريات، ووضع الجميع في حالة طوارئ ، وبات لزاماً عليهم التماهي معها والخروج بأقل الخسائر.
في قرية ريفية، تواجدت الأسرة بكافة أفرادها في المنزل منذ عدة أسابيع، مما غير من وظائف الأفراد، فغابت صورة الأب المعيل الذي يعمل خارج المنزل بينما يعيش الرعايا داخله، فقد بات الجميع مدعواً لاختبار طريقة جديدة في الحياة، فالكل معني بتأمين الحاجيات الضرورية من خبز وأغذية ومنظفات. قام الزوجان دعاء وفرحان بجمع الهندباء البرية من البستان الملاصق للبيت لتأمين وجبة طعام صحية ومجانية، وشغلا ساعات الفراغ بإعادة الاهتمام بحديقتهما من قلب وتهوية وتسميد.
أما نعمة ومطاع الزوجان الطبيبان وبعد إغلاق عيادتيهما، فقد التزما بالتسوق معاً وتشاركا بتدريس الأبناء وقاما بطهي الوجبات معاً، إضافة إلى الإجابة على أسئلة الأصدقاء الطبية وزيارة المرضى من الأقارب أو الجيران.
في منزلها الصغير لجأت غريتا إلى الألعاب الترفيهية لتشرح لطفليها ضرورة الالتزام بالتوجيهات الصحية مبتعدة عن التخويف والمبالغة، وذلك عبر لغة جديدة تحترم عقليهما وتلائم عمريهما الصغيرين، إضافة إلى مساعدتهما بفهم الدروس ومتابعة الوظائف التي ترسلها المدرسة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
أرواح النساء كما أجسادهن، لم تعد تطيق المنزل كمساحة وحيدة ومعزولة، لذلك سعت بعض النساء إلى الانتظام في أعمال إغاثية ضمن القرية لأسر تحتاج الدعم المادي والجسدي، خاصة لنساء وحيدات أو لعائلات أفرادها متقدمون في العمر، فأعددن الوجبات الصحية والملائمة لهم، وأمنّ لهم وبالتناوب بعض الحاجيات الضرورية، لابل تطوعت بعضهن لتمريض العجائز كقياس الضغط أو تحليل السكري بالجهاز المنزلي. وكان أهم ما قمن به هو تأمين الأدوية من فائض لدى الآخرين أو من صيدلية القرية التي نفذ مخزونها من الأدوية وخاصة الدائمة، إضافة لتأمين الخبز والذي شكل الحصول عليه مشقة كبيرة يعجز كبار السن عنها.
لكن الاختبار الحقيقي كان مع الآباء، الذين اعتادوا على البقاء خارج المنزل طيلة أوقات النهار، فقد أعاد سام حساباته الشخصية وهو في عزلته مع أفراد عائلته، حيث قرر التوقف عن التدخين حرصاً على صحة أفراد عائلته في سابقة لم يكن يتوقعها أحد ولم يظن هو نفسه بأنه قادر عليها، كما أنه بدأ بممارسة الرياضة مع زوجته وطفليه محولاً ساعة الرياضة إلى فاصل ترفيهي وثق الروابط العاطفية مع ولديه وزوجته، وجعله يكتشف في شخصيته مرونة يملكها تهوّن عليه الحجر المنزلي الذي يبدو بلا نهاية.
لقد اكتسبت العائلة بعداً مختلفاً، فباتت مسؤولية ومؤسسة لابد من دعمها وحمايتها، والاستقواء بها.
حتى بلسم الصحفية بادرت مع صديقتها المشرفة النفسية لإنشاء مجموعات للأصدقاء والصديقات لتبادل آخر أخبار الفيروس وسبل الوقاية منه ومحاولة تقديم الدعم النفسي للأفراد المذعورين أو مد يد العون النفسي والإخباري للجميع.
لم يقف المجتمع المحلي الصغير بمواجهة مثل هذا السؤال من قبل، ماذا يمكن أن نفعل منفردين ومعاً؟ من أجل تقليل الخسائر أولاً، ومن أجل بناء عبارّات أمان متماسكة في ظل غياب حلقات الأمان الحكومية أو المجتمعية، غياب متأصل في المجتمع وصعب تجاوزه لضيق الإمكانات وقلتها.
إن الأسرة في النماذج المعروضة استطاعت إعادة تنظيم نفسها، وضبطت حاجاتها وعلاقاتها، وخلقت فهماً مشتركاً بين أفرادها. ولعله في تفاعلها مع نماذج أسرية أخرى قد خففت من الشعور بالوحدة أو التوحد مع المصائب، وكل أسرة ومن خلال التزامها بالنظافة والتعقيم والوقاية من الآخر ولأجل الآخر، لا تفعل ذلك من أجل خلاصها فحسب، بل ومن أجل الآخرين.
رغم الصدمة المفاجئة به، فقد خلق الفايروس المواجهة والتحدي، مما دفع الأسرة لتعيد اكتشاف ذاتها وتعيد حساباتها، فالمعركة لا مجال فيها للخسارة، والتحديات تخلق المنتصرين.
اللوحة للفنان “وضاح مهدي”
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”