مريم الناصري
منذ انبلاج ساعات الفجر الأولى تخرج صليحة (37 سنة) إلى العمل يومياً في الأراضي الفلاحية، زادها خبز وبعض الخضر في قفة من السعف. تحث الخطى نحو الطريق العام بمنطقة القصرين لتلتحق بأخريات ينتظرن إحدى الشاحنات لحملهنّ إلى إحدى الضيعات الفلاحية.
هي من بين 500 ألف فلاحة في تونس تعمل منذ أكثر من 15 سنة في الأراضي الفلاحية لجمع الخضر أو جني الزيتون والغلال، طيلة تسع ساعات يومياً تتقاضى فيها 10 دنانير في اليوم (3 دولارات).
تقول صليحة “إنّها تحبّ عملها لكن لا تتمناه لأبنائها. فهي لا تتقاضى أجراً محترماً ولا تتمتع بتغطية صحية أو اجتماعية. كما أنّا تنتقل إلى الأراضي الفلاحية في ظروف صعبة تفتقر إلى أبسط قواعد السلامة”. مضيفة “إنّ أغلب الفلاحات يعشن نفس الوضعية المهنية الهشة دون أدنى حقوق”.
تتجمّع أخريات بالعشرات في منطقة بطبربة في محافظة منوبة في انتظار قدوم شاحنة،حتى يتدافعن نحوها للصعود والظفر بمكان فيها. تقبل تلك الشاحنات المهترئة لتتسارع إليها الفلاحات للحصول على مكان في صندوقها الخلفي. ويعمد صاحب الشاحنة إلى سكب المياه على سطح الشاحنة حتى لا تجلسن، ليستطيع نقل أكبر عدد من الفلاحات وهنّ في حالة وقوف. كما يعتمد الكثير من أصحاب الشاحنات في مختلف المواسم على نقل العاملات على متن شاحناتهم دون مراعاة ظروف السلامة. وضع يجعل النسوة تواجهن خطر السقوط خصوصاً في المسالك الريفية الوعرة أو المنعرجات. لا سيما وأنّ أغلب تلك الشاحنات قديمة مهترئة.
تنطلق إحدى تلك الشاحنات التي تستوعب قرابة عشرة أشخاص فقط، لكنّها محمّلة ب25 امرأة وقوفاً، لتقطع مسافة عشرون كيلومترا قبل الوصول إلى إحدى الأراضي الفلاحية ليعملن في جمع الطماطم والفلفل والخضروات. أغلبهن تتراوح أعمارهنّ بين 16 و75 سنة. أجورهن بسيطة قد لا تتحاوز الدولارين في اليوم أحيانا.
تقترب من تلك النسوة للحديث إلى بعضهن. يضعن على رؤوسهنّ قبعات تحميهم من أشعة الشمس، ملثمات يغطين أغلب وجوههن ولا تبرز منهن سوى الأعين تفاديا للأتربة والغبار. قد يرفضن الحديث أو الشكوى من وضعهنّ مخافة طردهنّ من العمل. وتقبل شرط عدم تصوير وجهها أو الكشف عن هويتها حتى لا تخسر مورد رزقها.
رفيقة أمّ الخمسة أطفال أكّدت أنّها تعمل يومياً طيلة تسع ساعات أو حتى أكثر مقابل فقط ثلاث دولارات. حتى باتت اليوم تعاني من عديد أمراض الرّوماتيزم، ومشاكل في التنفس. بسبب عملها لسنوات في الفلاحة. فنقلهنّ في شاحنات مكشوفة يعرضهنّ دائما إلى الرياح والبرد والأمطار. كما أنّ الاستعمال المكثف للمبيدات جعلها تعاني مشاكل في التنفس.
على صعيد آخر تشير محدّثتنا إلى أنّ ظروف نقلهم تفتقر إلى أبسط قواعد السلامة. لاسيما وأنّ حوادث انقلاب الشاحنات التي تنقل الفلاحات تتكرر باستمرار، راح ضحيتها عشرات النسوة ممن أصبن إصابات بليغة جعلتهن غير قادرات على العمل.
تذكر رفيقة أنّها تعرّضت مرتين إلى حادث انقلاب الشاحنة التي كانت تنقلها. تعرّضت خلال الحادثتين إلى إصابات بسيطة لأنها كانت غالبا ما تختار الوقوف منتصف النسوة على الشاحنة. لكنها لا تنسى أيضا تلك النسوة اللاتي أصبن وما عدن قادرات على العمل.
وتمثّل الفلّاحات في تونس نحو 43 بالمائة من النساء الناشطات بصفة عامة في البلاد، أي حوالي 500 ألف شخص، وفق احصائيات وزارة الزراعة. كما تمثّلن حوالي 85 بالمئة من اليد العاملة في الفلاحة، من بينهنّ 16 بالمئة فقط صاحبات أراضي.
ورغم عدم امتلاك المرأة الفلاحة للأرض، فإنّها تنشط في المستغلاّت العائلية وتمارس النشاط الفلاحي إمّا كأجيرة أو معينة، لتكون بذلك من أهّم المساهمين في تحقيق الأمن الغذائي وتوفير الغذاء على المستوى الأسري والوطني. في المقابل أشار عبد المجيد الزار رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، أنّ المرأة الفلاّحة ليست المستفيدة من مرابح المنتجات التي تقدّمها رغم اجتهادها وعملها لساعات طويلة وفي ظروف عمل صعبة.
فيما لا تتمتّع المرأة الفلاحة بأيّ تغطية اجتماعية أو صحية. رغم أنّ أغلبهنّ معرّضات إلى الحوادث والأمراض نتيجة تأثيرات المبيدات الحشرية. إذ أشارت مها البرقاوي، ممثلة عن رابطة الصحة بالاتحاد الوطني للمرأة التونسية إلى أنّ 90 بالمئة من النساء العاملات في الزراعة يستعملن المبيدات الحشرية و 74 بالمئة منهن لم يتلقين تكوينا في كيفية المداواة واستعمال أساليب الوقاية من تأثيرات هذه المبيدات. فيما لم تستعمل حوالي 84 بالمئة منهنّ الكمامات للوقاية من تأثيرات هذه المبيدات التي يمكن ان تتسبب في أمراض مسرطنة.
في المقابل أشار الاتحاد العام التونسي للشغل في دراسة أعدّها بالتعاون مع أكاديمية شباب راصد لانتهاكات حقوق الإنسان والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان حول المرأة العاملة في القطاع الفلاحي، إلى أنّ الانتهاكات تبدأ من غياب الأطر القانونية التي تنظم العمل في النطاق الفلاحي مما يترافق مع تدني الأجور. وقد صرّحت 99.5 بالمئة من المستجوَبات أنّهن يتقاضين أقل من 5 دولارات في اليوم.
على صعيد آخر أشارت الدراسة إلى أنّ 97 بالمئة منهن لا يتمتعن بأيّ تغطية صحية واجتماعية. وقد اعتبرت36.1 بالمئة منهن أنّ عملهن فيه كثير من المخاطر الصحية. كما لم تتلق 99 في المئة أي تكوين. بالإضافة إلى هذا يغيب أي تمثيل نقابي لهؤلاء النسوة، مما يجعل حقوقهن مهضومة.
وفي ظلّ تكرّر حوادث الطرقات والتي تتسبب في إصابات عشرات النسوة سنويا تصل حدّ الموت بسبب عن اعتماد وسائل نقل غير محميّة، واتباع أصحاب الشاحنات مسالك فلاحيّة وعرة للتهرّب من المراقبة. وقد تمّ عام 2016 تسجيل وقوع عدّة حوادث أدت إلى وفاة 5 وجرح 107 نساء.
وقد أشار عبدالمجيد الزار رئيس الاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري إلى أنّ نقل الفلاحات يتمّ غالبا بشكل مهين لا يحفظ كرامة المرأة الفلاحة. إذ يقع نقلهنّ وهنّ واقفات لحمل أكبر عدد ممكن من النسوة. وغالبا ما تكون مسافة نقلهنّ طويلة تفوق حتى العشرين كيلومترا، يصلن منهكات إلى العمل لقضاء تسع ساعات أحيانا تحت أشعة الشمس.
وأشار الزار إلى أنّ الاتحاد اهتم مع وزارة المرأة بسن قانون يفرض على أصحاب الأراضي الفلاحية توفير وسائل نقل آمنة. وقد تمّ توفير بعض وسائل النقل الآمنة في عدّة جهات. على أمل تكثيف مراقبة عمليات نقل الفلاحات إلى العمل.