Search
Close this search box.

حين لبست وجه خالتي الغريبة

حين لبست وجه خالتي الغريبة

* جورج ميخائيل

من المرأة الملونة إلى السوريات البهيات!!أخيرا صدرت وفي دمشق المجموعة القصصية المنتظرة، يوم لبست وجه خالتي الغريبة، تواصل الكاتبة سلوى زكزك، والتي تبوأت مكانة ريادية في التدوين اليومي لأحوال السوريين وخاصة السوريات على صفحات الفيس بوك.

 نعم كنا بانتظار صدور المجموعة لنكتشف كيف يتحول التدوين إلى قصص، خاصة وأن الكاتبة المثيرة للاهتمام والجدل تنشر يومياً حكايات وأقاصيص الحياة اليومية، وإن صح القول تفاصيل الحرب اليومية على لسان السوريين والسوريات، وهم يعيشون حربا طاحنة وصراعات غير مسبوقة.

في المجموعة الجديدة ثمة إخراج فني وغلاف خاصين، ينتميان لعيون المكان ولعيون الشخصيات النسائية، إضافة إلى أن الكاتبة قد راهنت على مقدرة بصرها وبصيرتها على النفاذ الى عمق الأمكنة وسكانها، وعلى إزاحة الستار عن وقائع وشخصيات نراها ولكنا لا نكترث بها وكأننا لا نراها أصلاً،  وذلك عبر سرد واقعي وتفكيك لوقائع يومية وإعادة بنائها بشكل أدبي من دون الوقوع في مطب السرديات المباشرة والفجة، وكما أنها أي الكاتبة نجت من فخ اللغة النمطية الغارقة في الألفاظ والأحكام والمنمقات اللغوية التي عادة ما تعبر أو تسرد لغة الكاتب وطريقة فهمه المتعالية على لغة وخطاب شخصيات القصص.

في مجموعتها الأولى (المرأة الملونة)، تحضر النساء كزوجات تقليديات فحسب، مع رب منزل أو زوج أو أب ذكوري، بينما في قصص النساء الجديدة، قصص النساء زمن الحرب والخضات الكبيرة والتبدلات الحاسمة، نجد افتراقاً شاسعاً وتاريخاً جديداً، قد غيرت مهام النساء الحياتية وأدوارهن الاجتماعية وتفاصيل السلوك المتغير في مواجهة انعدام الأمان الاجتماعي وافقاد أبسط الحاجات الحياتية وغياب الأحبة وتغييبهم، تبدل بضغط التحديات الجديدة، لكنه تغير يلبس وجه الغربة الحاضرة ووجه التحدي، وأوجه المرارة والأمل، والخوف من الفقدان واختيار العيش المستقل أو التمرد الشجاع وغير المألوف أبدا.

في القصة التي حملت عنوان المجموعة، تتقمص الكاتبة حكاية الخالة الغريبة عن المكان، عن دمشق، وعن الحنين للبيت الأصلي وللابن ولرائحة الأهل وعاداتهم وأسمائهم ووجوههم، تقص الكاتبة في طريق عودتها إلى بيتها بعد لقائها بالخالة الغريبة، حكايتها ممتزجة بحكاية الخالة، وكأنهما امرأة واحدة، امرأة قد سرق عمرها بفعل الترحيل وانقطاع حلم العودة، امرأة وحيدة ترجو مساعدة الجميع وتحتاجهم، لكنها في الوقت عينه تدافع عن نفسها بمحاولات بائسة لدحر الشعور بالغربة، محاولات باءت وتبوء كل ساعة بالفشل وتثبت أن الجميع غارق في الغربة ولا فكاك منها إلا بالبوح المر، مجرد بوح يخلخل الرضى المقنع فتفوح رائحة الغربة وتعم تفاصيل المكان .

في القصص الستة عشر، لا تذكر الكاتبة الحرب ككلمة وكأنها واقعة تاريخية محددة المدة والمكان، ولا تشير إلى الموت الحاد ولا إلى الكراهية والذعر وانعدام الأمان بشكل مباشر، للحرب في القصص حضور أعمق من الحضور اللغوي، حضور ممتد منذ زمن طويل، حروب ترفض الحب وتبيع الجسد في مزادات علنية، حروب تقامر بأعمار الأبناء وترميهم في البحار وفي الغابات وفي الضياع وفي عدمية مستفحلة، عدمية عميقة، حان وقتها لتطفو على وجه الحقيقة، لتعلن الموت المعلن، الموت الكامن صامتاً وغارقاً في سريته، لكنه الآن يتفشى كبقعة حبر لم يستطع نسيجها على امتصاصها أبداً، الحرب متواجدة في فضاءات القصص كلها، تدخل نسيج القصص كما نسيج الحياة وتكسوها بقوة غير منظورة، لكنها قوة قاهرة ومتحكمة، وإن صاغتها الكاتبة بمسحة جمالية خاصة، جمالية ساخرة أحيانا وعاطفية أحياناً أخرى، كما في قصة هدوء نسبي وقصة إعلان عائلي .

في قصة معايدة، تتأزم اللوحة الحقيقية وكأنها عرض مونودراما على خشبة مسرح مكتظ باللامعقول، تغلف القصة كوميديا سوداء وسخرية كاشفة وضمنية، سخرية عبثية، لكنها تطعن الروح في الصميم، فيصيبنا الصمت في مقتل ونتساءل، أهي المرارة؟ أم قوة الخيال؟ أم بلاغة المجزرة؟ حين تطلب سيدة تعيش في حديقة جرداء ساعة حائط وروزنامة معايدة لها بحلول السنة الجديدة، لتدخل في لعبة العيش أو في آلة الزمن اللاهية والقاصمة كنصل مغمد في الصدر وفي ذاكرة القلب.

تخوض النساء في هذه الحرب، حروبها الخاصة والعامة معاً، حروب جديدة، من أجل البقاء ومن أجل الكرامة والحرية، في اتساع مرعب لمساحات الجوع والفقد والغربة والفساد والتشرد، حرب من أجل حماية الشريك أو الخلاص منه، حرب من أجل لقمة تشبع الأطفال العزل، حروب المسؤولية والشوق واليأس والتعب، والرغبة بالنجاة أو بالهرب ما استطعن إليه سبيلا.

ما بين التدوين والكتابة القصصية، مساحات شاسعة في طرائق التعبير والصياغة وأسلوب النقل، وفي اختيار المواضيع والتركيز على شخصيات محددة دون سواها، لكن الفرادة تتمظهر هنا ببراعة تحويل المشهد اليومي إلى قصة كتبت بكلمات، لكنها تتحول فورا إلى صور مباشرة وكأنها فيلم وثائقي، الصوت فيه واضح ومسموع والرائحة تخرق الأنف والمشاعر، تفيض وتصل القلوب ولا تبترد إلا بطلب المزيد من التفاصيل ومن الأسئلة، وهنا يمكن أن نسمي كل قصة باللوحة الحية النابضة، اللوحة الواضحة والمشفرة بآن معا.


  • قراءة  في المجموعة القصصية للكاتبة سلوى زكزك حررت بتاريخ 23/ شباط /2020 سوريا – حمص

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »