سلمى مصطفى
فيما تبدو وسائل التواصل الاجتماعي مسرحا لتبادل الآراء والتفاعل بين الناس على اختلاف ثقافاتهم وميولهم الفكرية، تبدو تلك الوسائل/ الوسائط مسرحاً لممارسة العنف الايديولوجي واللغوي، وإطلاقا لمخزون الكراهية التي تنطلق ليس من دوافع المصلحة وحدها للتقاتل، بل أيضا المبادئ المبرمة القاطعة، ليس ثمة أخطر من اليقين، بأننا وحدنا على حق كما يعبر فرانسواز جاكوب* ولاشيء يسبب دمارا أكثر من التشبث بحقيقة ينظر إليها بصفتها حقيقة نهائية ومطلقة. جرائم التاريخ كلها هي نتاج تعصب ما. التعصب جذر كل الجرائم التي تم اقترافها عبر التاريخ، تحت رايات عناوين مختلفة، باختصار باسم معركة ضد حقيقة الآخر.
وما توفره وسائل التواصل الاجتماعي من اقتصاد في الجهد والوقت أتاح لأنظمة وأحزاب سياسية ومؤسسات إعلامية أن تستولي على هذا المتسع الالكتروني اللامحدود وتستثمره وفق أجنداتها ولأهدافها الخاصة، وتقديمها كأهداف عامة استمرار لمحاولات سيطرتها الايديولوجية على أكثر من صعيد في الإعلام والثقافة، والمدرسة والعمل، وما فيها من سرعة على التعبئة لإيصال الرسائل المتعددة الجهات والغايات.
كان من الطبيعي أمام سيولة عمل تلك الوسائط وقدرتها على التاثير والإيصال أن تستغلها قوى الثورة البديلة، وتنشر مضامين رسائلها إلى أوسع نطاق ممكن بغض النظر عن الاستخدامات الطاغية اليوم والتي تميل الى الثرثرة وإثارة التشنجات وتعزيز العصبيات، وصولا إلى ما يمارسه البعض على مستوى الجماعات والأفراد من سلوك التنمر اللفظي، وهو ما يبدو جلياً على أكثر من صعيد بعيداً عن روح التواضع المعرفي ولغة التسامح، وتفهم الفوارق البينية الموضوعية، وغياب الاحترام، ومرة ثانية نعود إلى جذر المشكلة في التعصب لأفكارنا وطريقتنا في النظر ممزوجاً بالغرور ووهم التفوق، وهو مايسمح للمعتدي اللفظي بإظهار تنمره مستخفاً بالآخرين بغرض إخضاعهم وشل مداركهم النقدية الواعية باستنساب لتاريخه الشخصي الحافل بمنجز ما (ابداعي) على سبيل المثال أو نضالي، ويتخذ أشكالاً صريحة حيناً ولامرئية حيناً أخرى من “الأستاذية”.
المتنمر اللفظي يكون واضحا في بث رسالته العدوانية، يظهر ذلك جلياً في مخاطبة النساء على وجه الخصوص، بكل ماتحتويه أعماقه الداخلية من ( خَبَث) وعنف التسلط الداخلي وهو يتقيأ بالألفاظ النابية والاحتقارية، التي تعكس فائض وهم القوة العدواني، فضلاً عن فائض مركب التسلط الكامن فيه والتي يحتاج إلى موقع سلطوي أو سياسي نافذ لممارستها على نحو جلي.
قيم الثورة .. ثقافة بديلة ونمط سلوك بديل:
بما أن التنمر اللفظي تطاول على الكرامة الشخصية للآخر واعتباره المعنوي – وفي مقامنا هنا النساء – فإن المتنمر يعكس في الواقع الثقافة والسياسة الذكورية السائدة، ويترجم آألياتها بحمم لفظية عدوانية بغرض إلغاء الآخر معنويا والحط من كرامته، واعتباره الشخصي، وغالبا ما يتخلله شتائم جنسية ، وبقدر ما يبدو مفهوما وواضحا أن يغزو المتنمرون شبكات التواصل الاجتماعي ويرمون خصومهم بأقذع السباب والشتم ، فإن المستغرب أن يطال هذا السلوك أفراداً ومؤسسات في موقع الثورة ومناهضة النظام الديكتاتوري ومايفترضه هذا الموقع من تبني مدونة قيم وسلوكيات تقطع مع نهج و(أخلاقيات) النظام العبودية والقهرية، وبقدر مااحتوى موقع الثورة على قطاعات عريضة من مجتمعنا لم تقطع مع ماضيها إلا في الموقف السياسي مع النظام -على أهميته- إلا أنها لم تستطع إجراء القطيعة النفسية والثقافية، مع ميراثها القديم، وهو يحتاج بالتأكيد إلى جهد ذاتي ومؤسسي ضمن سياسة تربوية جادة تضع في الحسبان خلق جيل جديد مبني على قيم التسامح والإحترام والندية والحساسية حيال أي سلوك عبودي أو تعصبي، وللأسف لم تنجز ثورتنا بعدها الثقافي البديل عن النظام في مراكمة نضالية تقوم على عاتق الجميع نساء ورجالا، من هيئات حزبية ومؤسسات ومربين وقادة سياسيين نحو ثورة ثقافية تحترم التنوع والاختلاف، ويساهم فاعلوها كل من موقعه الايديولوجي والسياسي بمساهمته في صناعة نبذ التعصب والعصبوية السياسية والعقيدية، وإيلاء الإهتمام بجمهور كل جماعة وحزب ومؤسسة على فهم جمهور الآخر وأفكاره فهما موضوعياً، واحترام مسافة الاختلاف الموضوعية والمشروعة عنه.
وكما هي حال أشكال العنف جميعا فإن النساء ينلن القسط الأعظم من العنف اللفظي في العالمين الواقعي والافتراضي، وغالبا ما يتلطى المتنمرون في العالم الافتراضي خلف أسماء وهمية أو شخصيات غير حقيقية” كأن يتلبسن شخصية انثى” للنيل من طريدتهن، بإعلاء شأن موقفه وموقعه، وتبخيس شأن وجهة النظر المقابلة عبر شخصنتها، وعندما يكون الطرف المقابل أنثى فإن ذلك يدفعه أكثر للتمادي والعدوانية.
لامناص من إعلاء الصوت واليقظة:
تلك البلطجة التي تندرج في مدرج العنصرية الجندرية يجب مواجهتها بحزم عبر كشفها وفضحها، ومساندة وسائل الإعلام الثورية والصديقة.
ولأننا نفتقد لمدونة قانونية دولية ناظمة، تنظم وتقونن تلك التجاوزات بحكم حداثتها من جهة، فضلأ عن أن ظواهر التنمر اللفظي لاتخضع لحيز جغرافي محدد ولالقانون حكومي ينظمها، لاغنى عن المجهود المدني والإجتماعي في مواجهة هذه الظاهرة، وذلك حسب كل مستوى من المتنمرين الذين يوجهون سمومهم حيال المشاركات والناشطات، بغرض عزل هؤلاء البلطجية/ المتنمرون، وحشد تعبئة مضادة حيال أي سلوك وموقف متنمر، ومطالبته بالإعتذار، أو عزله إجتماعياً وإلكترونيا بعد بيان الأسباب الموجبة، والأهم من ذلك عدم الانسحاب من مسرح التواصل الاجتماعي، لأن الخروج من هذا المعترك يعتبر هزيمة يريدها المتنمر، ويزيده تمادياً في تحقيق غرضه في الإلغاء المعنوي للآخر.