Search
Close this search box.

معنى آخر للأمومة في المخيمات

معنى آخر للأمومة في المخيمات

رولا ابراهيم

شعوراً غريباً تعيشه الأم بعد الولادة؛ هذا الشعور بالامتلاء والسكينة والصيرورة والاكتمال. تبرز تلك المشاعر بغرابتها

في مجتمع اللاجئين في المخيمات، وفي حين يُنظر الى الحوامل نظرة عدوانية وكأنّهنّ سببٌ لاستمرار الحرب، تكون الأم في عالم آخر!!

لطالما لمست في عملي في بعض المخيمات ومراكز الإغاثة تلك السعادة الخفيّة في عينيّ الأم وهي تَنظر لطفلها الوليد، مستمتعةً بعلاقتها معه؛ لم لا، وقد يكون الوحيد الذي يضفي على وجودها قيمة، فهناك أحد ما في هذا الكون المعادي يحتاج إليها ويشعرها بأهميتها.

تعيش معه وكأنها في فقاعة هوائية منفصلة عن واقع المخيمات المرعب، للحظات تشعر بوجودها حتى وإن قالت: “هادا الولد بيضل يعذبني، ما بيتركني ولا لحظة، ما عّم اقدر اعمل شي بيضل ماسك فيي”

وبنوع من التواطؤ بينهما، يتمكّنا من خلال علاقتهما أن، ينتصرا على الموت والحرب ونوايا الإبادة والتهجير.

هكذا تنتصر الحياة على الموت.

سألَت إحدى الداعمات النفسيات الجديدات أمّاً حديثة الإنجاب في مخيم للاجئين: “كيف جبتي ولد بهالظروف؟” فما كان من الطفل، الذي ربما تحسّس لنبرة الصوت العدوانية، إلا أن عانق أمه التي نظرت إليها باستنكار وغضب مع حركة حماية تلقائية على ظهر طفلها ذو السنتين وقالت “وليش لأ؟”.

هي التي اُقتلِعت من بيئتها الاجتماعية، وحُرمت من كل تجليّات وجودها خارج مساحة أمومتها، فباتت تستمد قيمتها الإنسانية وقوة كيانها ومعناه من قيمة الأمومة ومن توحدها مع طفلها الذي يحمل الأمل والحياة ويعطي معنى للاستمرار وسط هذا الخراب.

وكأن الحمل والولادة طريقة هروب من واقع التشرد الذي يجرّد الإنسان من حضوره الاجتماعي والإنساني، وكأنه يعيد معنى للأسرة من جديد، وفي علاقة الأم بهذا الطفل تعود لتشعر بالأمل والحياة.

ودوماً للقصة وجه آخر

لقد دعم الموروث الاجتماعي فكرة تماهي الأنوثة والأمومة، فالمرأة خُلِقت لتكون أماً، كم من انتقادٍ لأزواج لأنهم قرروا فقط تأجيل إنجاب الأطفال!، وكم يكون حُكم المجتمع قاسياً على المرأة التي لم تتزوج لأنها لن تنجب!. ومن الطبيعي أن يطلّق الزوج زوجته لأنها لم تنجب أو يتزوج من أخرى، ولكن هذا مستهجن على المرأة إذا كان زوجها هو الذي لا يستطيع الإنجاب.

المرأة-الرحم

في موروث المجتمع تكتمل أنوثة المرأة حين تصبح حاملاً وأماً، وتزيد الشرائع الدينية من عبء هذه الفكرة، يقول الحديث النبوي: تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة”. والحديث واضح في أن المسلم ينبغي له أن يحرص على أن يكثر النسل وذلك تحقيقاً لعزة الأمة، فإن الأمة تعتز بكثرة أبنائها. وقديماً قالوا: إنما العزة للكاثر، والآية القرآنية: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) سورة الكهف 46، فإذا ما ضنّت الحياة بالمال فالبنون بمتناول اليد. وبقية الديانات أيضاً تحثّ على إنجاب الأطفال لكن هناك معنى آخر للطفل في مخيمات اللجوء وسؤال مختلف.

تنجب المرأة الأطفال حتى دون تفكير أو قرار، فهي ليس لها فرصة أن تكون شريكة في أكثر حدث يمسّ جسدها ووجودها، ونظراً لأن الزوج هو المعيل، فإنها تضطر للخضوع لرغبة الرجل بالإنجاب، ويزيد الأمور تعقيداً معتقدات البعض بأن الإجهاض حرام.

وليس لمفهوم الصحة الإنجابية أي صدى في عقولهم، هذا إن كانت المنظمات تعمل على التوعية في هذا المجال، وربما كان هذا معاكساً للتوقعات، فبعد أن تم تأمين خدمات خاصة بالمرأة كأطباء النسائية والإيكو ومعونة الولادة، أصبح هذا تشجيعاً على زيادة الولادات وليس العكس، إضافة إلى نوع موانع الحمل التي لا تناسب الثقافة المجتمعية.

تقول إحدى النساء: “أنجب له الكثير من الأطفال كي لا يطلقني ” بالنسبة للزوج القرار سهل، فهو لا يتعب في الحمل والإرضاع. ومن ناحية اقتصادية، الأولاد كرأس المال له، فهو يأمل أن ينتشلوه من مستنقع العوز، أن يعطيه كل ولد حين يكبر مبلغاً من المال يُشعره بأمان تجاه المستقبل. أو كما قال أحد الآباء ولديه تسعة أطفال: “إلا ما يطلع منهم واحد ينجح في دراسته ويرفع راسنا”. ومن الناحية النفسية هم الإنتاج الوحيد بالحياة وهو اللاجئ المرمي في مخيم كرقم. في ظل الخوف من المستقبل وغياب الضمان الاجتماعي وشبكات الأمان، يبقى الأمل بالأبناء أن يعيلوا آبائهم. وأيضا دعم الشريعة لهذه الفكرة بالتوصية بالوالدين وعدم إغضابهم.

يُراكِم الفقراء الأطفال كما يُراكِم الأغنياء المال

طفرة المواليد أثناء الحروب ظاهرة عالمية ليست جديدة، في عام 2018 أظهرت أرقام المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تسجيل 80 ولادة أسبوعيا في مخيم الزعتري للاجئين السوريين، فيما بلغت نسبة سكان المخيم دون سن الخامسة نحو 20%. حسب المفهوم الشائع كل ولد بتجي رزقتو معو، ولأن هناك خطر ارتفاع الوفيات بين الأطفال فمن الأفضل زيادة العدد.

ويبقى السؤال الشهير لـ “أبهجيت بانرجي” و”إستر دوفلو” في كتابهما المهم “اقتصاد الفقراء” الذي يحاول أن يرى الواقع بعيونهم:

هل يزداد الفقر بزيادة عدد الأطفال أم عدد الأطفال الكبير يجلب الفقر؟

أم كلما نقص الشعور بالأمان الذي يرافق الفقراء زاد عدد الأطفال؟

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »