Search
Close this search box.

كل سوري على قيد الحياة هو معجزة

كل سوري على قيد الحياة هو معجزة

نبال العلو

“الله كريم بكرا يكون أحسن” … بهذه العبارة يطمئن العامل زميله وقد قرر إنهاء ساعات انتظارهما تحت جسر المطار في بيروت، والتي امتدت من الصباح الباكر حتى الثانية عشرة ظهراً، مع أمل دائم متجدد أن يقع اختيار زبون ما عليهما أو على واحد منهما لإنجاز عمل أو مصلحة يريدها. هذا الزبون من أعمال المياومة التي يعيش هؤلاء العمال السوريون من مردودها مثل هدم جدار لتوسيع محل أو غرفة في منزل أو نقلة بسيطة لأثاث منزلي.

هذا الاختيار ليس له معايير محددة تحكمه، فقد يعتمد صاحب العمل في اختياره على  الشكل أو القوة الجسدية أو شباب العامل وفتوته، وأحياناً تكون شدة البؤس والفقر البادي على الوجوه  الذي يبين أن الحاجة هي المعيار.

في مكان آخر داخل المخيم  تتكرر العبارة نفسها: “الله كريم وخيره كثير”، ويعلق عليها الكثير من الآمال للحصول على المساعدات الإغاثية للاجئين.

لكن واحدة من أغرب طلبات المساعدة لهذا اليوم أو ربما لهذا الأسبوع كانت من عروس شابة  دخلت إلى مكتبي بحجة أن لديها  سؤالاً بسيطاً وصغيراً عن إمكانية مساعدتنا لها.

بدأت حديثها: “لقد أتممت جميع ترتيبات ليلة زفافي وجميع أغراضي أصبحت شبه جاهزة وقد أكملت جهازي”. (كما تفضل جميع الصبايا تسمية أغراض العرس بالجهاز كذلك فعلت هذه العروس الصغيرة).

تتابع: “لم يعد ينقصني سوى الشرشف العرايسي الأبيض (لحاف العروس الحريري الأبيض).  هل يمكنك  مساعدتي بتأمين شرشف حتى وإن كان مستعملاً، لا مشكلة لدي؟”.

لم أعرف إذا ما كان هذا هو المكان الصحيح لمثل هذا السؤال؟

كيف لي أن افسر لها ماهية الدعم النفسي الاجتماعي الذي يُقدم في هذا المكان؟

ولم أعرف إذا ما كان تأمين اللحاف يستطيع أن  يقدم الدعم لها أم لا؟

رافقني هذا السؤال الغريب إلى منزلي مساءً، ولأتمكن من الاجابة على السؤال توجهت إلى خزانتي وأخرجت منها لحاف عرسي الملون وأطلت النظر فيه طويلاً، لتعود بي الذاكرة عشر سنوات إلى الوراء، إلى تحضيرات زفافي والتقليد الشائع القائل بوجوب أن  تمتلك كل عروس في جهازها لحافاً أبيضَ من الساتان اللمّاع. شرشف العروس الأبيض هذا دفعني إلى  كسر التقاليد والقوالب ورفض فكرة شرائه من أساسها واستبداله بلحاف صيفي ملون جميل تقسمه ألوان قوس قزح نصفين.

هذا الرفض الذي جعل مني لاحقاً ولفترة ليست بقصيرة موضوعاً دسماً للنميمة بين زميلاتي في العمل ممن كن على إطلاع يومي بتفاصيل تحضيرات زفافي واللواتي بذلن جهداً كبيراً  لإقناعي بوجود خيارات أخرى بديلة عن اللون الأبيض وتؤدي نفس الغرض، كاقتراح اللون السكري أو البيج بدرجاته، بالرغم من جهودي للرد على تلميحاتهن ومحاولاتهن المباشرة وغير المباشرة أن مشكلتي ليست مع الأبيض بقدر ما كانت مع التقاليد والمفروض والواجب  والقوالب الجاهزة.

بالعودة إلى الإجابة على السؤال عما إن كانت هناك علاقة بين الدعم  النفسي وطلب العروس الغريب صباح هذا اليوم؟

عدت للتأمل مرة أخرى عسى أن أجد اجابة شافية.

كيف لا توجد علاقة؟

ولحافي الملون هذا كان رفيقي في نزوحي المتعدد ضمن مدينة دمشق، كيف لا وقد كان ملجئي بعد يوم عمل طويل يحتاج الوصول إليه المرور بسبعة عشر حاجزاً في طريق الذهاب وسبعة عشر أخرى للإياب.

كنت أقسمه من الوسط وأجلس على نصفه وألفُ النصف الآخر حولي كل  مساء لأقنع نفسي أن الأمور بخير.

طالما أني قد نجوت لهذا اليوم  وكل يوم من خفة ظل  العسكري ومزاحه الثقيل على الحاجز بالقرب من مشفى الحياة، عندما يقترح استضافتي لبقية اليوم في غرفة المحرس على يمين الشارع لمجرد رؤيته منطقة قيدي على بطاقتي الشخصية.

بقي هاجس حول المزحة إلى الجد يرافقني في كل مرة اضطر فيها للمرور من أمام مشفى الحياة في فترة مناوبة العسكري.

كيف لا توجد علاقة؟

وقد تحول لحافي الملون هذا من مصدر دعم في دمشق إلى مصدر إلهام لي في  بيروت أثناء جلساتي مع السيدات اللاجئات في المخيم عند الحديث عن التكيف وتقنيات مساعدة الاطفال على الاندماج في المجتمع الجديد، والتي إحداها ومن أكثرها أهمية هي خلق روتين يومي للطفل والعائلة واستحضار بعض العادات التي كانت تشكل روتين العائلة في سوريا.

وكنت أضيف على ذلك كنشاط داعم للأمهات محاولة خلق زاوية لهن نسميها المكان الآمن أو الذاكرة الآمنة، تضع فيها السيدة الأشياء التي تعتقد أنها تساعدها على الاستمرار في العطاء لعائلتها من أجل  التكيف وتحاول أن تجعلها  تشبه إحدى زوايا بيتها في سورية، من خلال أشياء لها مكانة لديها أو تربطها بها علاقة من مثل شراشف الطاولات اليدوية أو الصور الشخصية والعائلية.

لتكون بذلك السيدة الأكثر حظاً من غيرها هي من أتيحت لها الفرصة والوقت لتختار الأغراض التي سترافقها لحظة الخروج إلى هذا المنفى.

اليوم قررت التخلي عن لحافي الملون للعروس الصغيرة التي اعتقدت أنها  بحاجته أكثر مني  لتنطلق في حياتها الجديدة.

قررت التخلي عنه أمام ذهول ماري، صديقتي وزميلتي في المكتب والتي كانت حاضرة في  معظم جلسات  الدعم النفسي وشاهدة على قوة حضور ملهمي أثناءها. لتتساءل: ” كيف تتخلين عنه هكذا بكل سهولة؟ هل انتهيت من مشاكل التكيف؟ أم أنك اقتنعت بوجهة نظري؟ “

ماري التي نزحت أول مرة من حلب الى دمشق لتتالى بعدها تجاربها في النزوح ثلاث مرات ضمن أحياء دمشق، تقول واصفة حالها: “في كل مرة كنت أهرب  فيها (الهروب هكذا تفضل  أن تسمي تجربة نزوحها) كنت أخرج بحقيبة يدي وفستاني الأصفر الكروشيه الذي صنعته بنفسي سابقاً عندما كنت أملك الوقت لأكون فريدةً بأناقتي.

“ولأجل ذلك حرصت أن يخرج معي من حلب وأن يكون برفقتي دائماً، لدرجة بت أعتبره  صديقي في تنقلاتي مع عائلتي وفأل خير في كل مرة أنجو فيها في دمشق، قبلما أتخذ قراري بالنزوح إلى لبنان”.

ماري التي تروي خبرتها للسيدات وتسرد تجاربها التي مرت بها على مسامعهن، وتصف  كيف كانت تفقد جزءاً من طبيعتها بعد كل تجربة وفي كل مرة تنجو فيها من اعتقال محتم، تتابع قائلة: “كنت أستمتع باقتناء الأشياء وتجميعها في صندوق خشبي بحسب مناسباتها وتسلسلها الزمني، هذا الجزء غادرني منذ خروجي من حلب أو ربما تركته في غفلة مني هناك بإحدى زوايا بيتي”.

ماري الآن  تعتبر أن نجاتها لأكثر من مرة إشارة وتلميح لبداية جديدة تستحق لأجلها  التغيير.

لكن تغييرها وابتعادها عن طبيعتها لم يدفعاها للتخلي عن ثوبها الأصفر بل آثرت الاحتفاظ   به كشاهد على مرحلة، واعتبرت ذلك سبباً كافياً لتزيد من إلحاحها في السؤال عن السبب الذي دفعني للتخلي عن اللحاف الملون لتلك العروس؟

أمام هذا الكم من الذكريات والإلحاح من ماري وجدت نفسي مطالبة بتوضيح أو تفسير لتصرفي هذا.

كيف أخبرك بما يجول في رأسي؟

كيف أخبرك بالهاجس الذي بات  يحاصرني كل يوم أمام الموت المجاني للسوريين؟ وأني بتُ أعتبر كل سوري على قيد الحياة هو معجزة بحد ذاتها وأن هناك حكمة ومعنىً من معاني الحياة يجب فهمه واستيعابه.

قررت التخلي عن كل ما يعيق انطلاقي إلى فرصة  الحياة التي حصلت عليها من هذه المعجزة، لكني سأحتفظ بهذه الفلسفة لنفسي، مع  الاكتفاء  بإجابة بسيطة  لتساؤلاتك أن:  “الخير كثير”.

خاص “شبكة المرأة السورية”

One Response

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »