Search
Close this search box.

من شبكة الإتجار بالبشر إلى نظام الكفالة

من شبكة الإتجار بالبشر إلى نظام الكفالة

نبال زيتونة

طويت صفحة شبكة الإتجار بالبشر، وأسدل الستار على مصير الناجيات عبر تفاهمات داخليّة لبنانيّة، وبمباركة من منظّمة الأمم المتّحدة ومنظّمات حقوق الإنسان، طالما أن ضحاياها نساء سوريّات.

لكن الأمر لم يتوقّف هنا، فها هو نظام الرقّ يعود إلى الواجهة من جديد، وهذه المرّة بلبوس قانونيّ تحت ‏اسم “نظام الكفالة”.‏

وكما في كلّ مرّة، على السوريين أن يدفعوا فاتورة الخذلان الدوليّ، وصفاقة السياسة والسياسيين.

فمع بداية عام 2015، اكتملت مأساويّة المشهد أمام السوريين في ‏لبنان، حيث لا حلّ سوى الاستسلام لهذا الواقع، ‏الذي يجبرهم على دفع مبالغ مالية لتأمين كفيل لبنانيّ، وتسليمه رقابهم. ما يعني الاسترقاق إضافة إلى المال، وليس مقابل المال. فهم الآن أمام خيارين في حضرة الموت، إمّا الرقّ وإمّا الترحيل، فالرقّ موتٌ مؤجّل، والترحيل موتٌ محتّم. ولا خيار ثالثاً طالما أن السبب ما زال قائماً على رأس الحكم في سوريا المدمّرة حتى النخاع.

وقد أفرزت تلك القرارات للحكومة اللبنانيّة العتيدة، جيلاً من الكفلاء، يمتهنون الابتزاز سبّةً لرفع قيمة أرصدتهم في البنوك، وسَوْق السوريين بعصا العبوديّة لبعض البنانيين، على مرأى ومسمع منظمات حقوق الإنسان.‏

هذا إضافة إلى خطر الاعتقال والاحتجاز عند نقاط التفتيش، ومداهمات تطال مناطق سكناهم.

يقول وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في لبنان “رشيد درباس”، إنّ هذه الإجراءات تسعى “للتمييز بين اللاجئ ‏السوري وغيره من المواطنين السوريين، كالعمال”.‏ في الوقت الذي منعت الحكومة اللبنانيّة دخول السوريين كلاجئين إلى ‏أراضيها. لكن ما غاب عن بال تلك الحكومة وغيرها من الحكومات، أنّ ‏اللجوء ليس رحلة ترفيهيّة يقوم بها السوريّ، إنما هي خلاصٌ من ‏موت محتّم، أو هكذا يظنّ اللاجئ الذي لم يتبيّن بعد ما الذي ينتظره ‏في لبنان.‏

ويضيف الوزير اللبناني إنه “تمّ تضخيم ردّ الفعل على الإجراءات ‏أكثر ممّا تحتمل، لأنها تنفّذ منذ مدة بطريقة غير معلنة”. وما هذا إلا اعتراف رسميّ صريح من الحكومة اللبنانيّة بشرعنة الموت والاستعباد وكلّ أنواع الانتهاكات ‏بحقّ السوريين.‏

وبيّن الوزير “درباس” أنّ الإنجاز الكبير الذي حقّقته الحكومة من هذا القرار، هو في تراجع عدد اللاجئين القادمين من سوريا إلى لبنان. لكنّه لم يتحدث عن التغيير الحاصل في أرصدة السماسرة والكفلاء في بلاده، حيث يسمح للسوري بدخول لبنان تحت شروط هي: (سياحة، زيارة ‏عمل، مالك عقار، مستأجر، طالب، التسوّق، السفر إلى ‏بلد آخر، العلاج الطبي ومواعيد سفارات)، وكلّ بند له سمة دخول تختلف عن الأخرى بمدّة تصريح الدخول‏، وماعدا ذلك فليمتِ السوريّون غيرَ مأسوفٍ عليهم.

ويبقى نصيب المرأة السوريّة هو الأكبر بين شرائح المجتمع السوريّ، في دفع ضريبة مراهقة مثل تلك الحكومات.

قصصٌ مؤلمة ترويها بعض السوريّات، وأخرى تعتقد للوهلة الأولى بأنها خياليّة، ولسان حالهنّ يقول “الموت أرحم!”.

سهام التي تنتظر لمّ الشمل إلى دولة أوربيّة مع طفليها، ذهبت لتجديد الإقامة، فقوبل طلبها بالرفض لحين مجيء الزوج، مع أنّها تمتلك عقد إيجار باسمها، ودخولها الأراضي اللبنانيّة شرعيّ! فالمرأة لا يحقّ لها الحصول على إقامة مع الطفلين دون وجود الزوج، هذا ما تفتّق عنه بؤس عقول العاملين في الأمن العام، ومن خلفهم مؤسستهم المشهود لها ببؤسها. عادت مرّة أخرى لتأتي بأحد معارفها ليقول للمسؤول هناك “بأنّ هذه المرأة منّا وفينا”، وهذا بؤس من نوع آخر يجيده رهط كبير من اللبنانيين‏.

أمّا إيناس فتروي قصّتها بالقول: “واجهت صعوبة في إيجاد كفيل قبل ‏دخولي لبنان، ولولا مساعدة معارف لبنانين وأصدقاء لما حصلت عليه. وبعد أن وافق الكفيل وقام ‏ باستصدار الأوراق اللازمة، جاء دوري لإتمام المعاملات، حيث لم يكن ‏سهلاً التعامل مع عناصر الأمن العام، وكانت هوايتهم، بل وعناوينهم العريضة تعذيب ‏السوريين”. 

‏وتتابع إيناس: “الآن وبعد انتهاء مدّة الكفالة، عليّ أن أقوم ‏بتجديد الإقامة، وهذا ما يشغل بالي، ويمنعني من التحرّك أو حتى ‏التفكير بأمور حياتيّة أهمّ من تجديد الإقامة. أنا في حيرة من أمري الآن، فإن حدثت المعجزة ووجدت كفيلاً آخر، سيتطلّب الأمر مبالغ مالية لا أملكها”. 

أمّا سارة، فتواجه مشكلة من نوع آخر. لا تستطيع البوح لأحد عن ممارسات كفيلها في استغلالها، فهو لا يتوانى عن الاتصال بها في أوقات متأخّرة من الليل، ويدعوها للخروج معه ومرافقته.

هذا ما استطاعت سارة قوله في ظلّ ظروف الخوف من الكفيل، ومواجهتها لمشاكل أمنيّة قد تكون قاضية فـ “الإرهاب” هي التهمة التي تلاحق السوريّات والسوريين ابتداءً من سوريا، وليس انتهاءً بآخر بلد في هذا العالم!

قصّة رشا تشبه سابقتها لكنّها تضيف: “حين واجهته بالرفض، وأغلقت الباب دونه، فوجئت بعد مدّة وبالصدفة، أنه ألغى الكفالة التي لم يمضِ عليها شهرٌ، وحين طالبته بالمبلغ الذي دفعته له، سخر منّي. قهرٌ لا يمكن احتماله”.

أمّا رنيم فحكايتها طويلةٌ طويلة، اختصرتها بقولها:

“حين جرّدني أمن مطار رفيق الحريري الدولي من كامل أوراقي الثبوتية، وأوقفني الأمن العام لفترة كانوا قد منحوني (الكرت الأخضر) لتجدّد إقامتي عندكلّ مراجعة لمدة شهر أو خمسة عشر يوماً حسب مزاج الموظف، وبقيت مدة سبعة ‏أشهر على هذه الحال. ورغم استردادي لأوراقي الرسميّة، وإحضاري إثباتات بأنّ أمي تحمل الجنسيّة اللبنانية، إلا أنهم ‏رفضوا منحي الإقامة بحجّة أنه ما زال أمامي (تسوية وضع). فإن كان وضعي لم يسوَّ بعد، فلم أعادوا لي أوراقي الثبوتية!

‏بقيت شهوراً أتردد على الأمن العام (لتسوية ‏وضعي)، واحتجزت في إحدى تلك المراجعات لمدة ‏خمس ساعات، ومرّة أخرى لثلاث ساعات. وهكذا قضيت أكثر من تسعة أشهر بين الأمن العام والتوقيف. ودفعت استعجال معاملة مبلغ مائة وخمسين ألف ليرة لبنانيّة، لتنجز خلال يوم عمل واحد، لكنها لم تُنجز إلا بعد ثلاثة أيام، وبعد ادعاءات كثيرة عن تضييع المعاملة ونقص في الأوراق، وما إلى هنالك من أساليب القهر والإذلال التي اشتهرت بها السلطات اللبنانيّة”.

وأمّ أيمن أيضاً تواجه عنفاً ليس بالقليل، فالاستغلال الماديّ أهون الشرور كما تقول، إذ تخاف على ابنتيها من تسلّط الكفيل فهي تعمل عند سيّدة لبنانيّة دون إقامة، ما يشرّع الباب واسعاً أمام استغلال جهدها وتعبها مقابل مبلغ زهيد.

هذا غيضٌ من فيض مما يواجه المرأة السوريّة في رحلة لجوئها المفروضة عليها. ولم تغفل منظمة العفو الدوليّة عن إلقاء الضوء على الأسباب التي تجعل اللاجئات السوريات في لبنان لقمة سائغة للاستغلال، ففي تقريرها الذي يحمل عنوان: “أريد مكانا آمناً” تشير المنظّمة إلى أنّ أوجه القصور في المساعدات ‏الدولية والسياسات التمييزيّة، التي تنتهجها السلطات اللبنانية خلقت ‏ظروفاً تجعل من اليسير في ظلها تعرّض اللاجئات للاستغلال والإساءة.‏

حيث يعيش نحو سبعين بالمائة منهم في ظل مستويات ‏تقلّ كثيراً عن خط الفقر المعتمد رسميّاً في لبنان، وفق الأمم ‏المتحدة، وكثيراً ما تجد النساء اللاجئات في لبنان أنفسهن عرضة لخطر ‏الاستغلال من أصحاب النفوذ، بما في ذلك أصحاب العقارات ‏وأرباب العمل، وحتى أفراد الشرطة، وفق التقرير.‏

من جهتها، قالت الباحثة الاجتماعية في المنظمة “كاثرين رمزي” إن ‏توليفةً قوامُها النقص الكبير في التمويل الدولي اللازم للتصدي ‏لأزمة اللجوء، والقيود الصارمة التي تفرضها السلطات اللبنانية ‏على اللاجئين، تؤجج مناخاً يجعل اللاجئات من سوريا عرضة ‏للتحرّش الجنسي والاستغلال، مع عدم قدرتهن على طلب الحماية ‏من السلطات.‏

وأضافت: إن تدفق اللاجئين أوجد ضغوطاً كبيرة على لبنان، ‏‏”لكن لا يجوز أن يستخدم ذلك عذراً يبيح للسلطات فرض قيود ‏صارمة على اللاجئين بما يجعلهم عرضة للخطر”.‏

وحسب التقرير، فإن الإجراءات المشدّدة التي تفرضها السلطات ‏اللبنانية، وتحديداً لناحية تجديد تصاريح الإقامة، تجعل الكثير من ‏اللاجئين غير قادرين على تجديدها، وبالتالي يفضلون “عدم إبلاغ ‏الشرطة عمّا يتعرضون له من انتهاكات” خشية توقيفهم.‏

أمّا منظمة ‏Walk free‏ الأسترالية، وفي تقريرها “مؤشّر العبوديّة العالمي 2016″، فقد أشارت إلى أن نصف سكان العالم يواجهون العبوديّة المعاصرة حيث تتنوع أشكال العبودية المعاصرة، بين الإتجار ‏بالبشر، الدعارة القسرية، تجنيد الأطفال، العمالة القسرية، ‏استغلال الأطفال في تجارة المخدرات الدوليّة وغيرها، وهي ‏تتضاعف اليوم نتيجة الفقر والحروب والاستعباد الجماعي.‏

وتعزو بعض هذه الأشكال إلى القوانين الصعبة جداً المتعلقة بالإقامات ‏وشروط البقاء، والخوف من خطر الترحيل في أي لحظة.‏

ومن أبرز المسبّبات لهذه المشكلة حاجة اللاجئين الكبيرة إلى الأموال ‏كيلا يموتوا جوعاً، وأنظمة الاستقبال والقوانين التي تضعها ‏الدول العربية، لتحدّ من تدفق اللاجئين إليها. فيأتي نظام الكفالة، ‏الموجود في قطر ولبنان والأردن، وغيرها من الدول العربية، كأكثر ما يدفع اللاجئين إلى الدخول بشكل غير قانوني إلى الدول ‏المجاورة، أو إلى الخضوع لشروط الكفيل.‏

ويبقى التساؤل: هل تكفي التقارير والإدانات والشجب والندب والقلق لحلّ مشكلة الاستغلال والعنف الممارس على اللاجئات واللاجئين السوريين، وكبح تداعياتها وآثارها المدمّرة؟

المصدر: مجلة “سيدة سوريا”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »