Search
Close this search box.

الناجية

الناجية

ياسمين نايف مرعي

أيلول ١٩٩٠

ها نحن نتجمع في باحة المدرسة، للمرة الأولى أكون وحدي بين الكثير من الأطفال، ومع الكثير من الأفكار المخيفة المرتبطة بسمعة هذا المدرس أو تلك المدرسة، هل سيضربوننا منذ اليوم الأول، كما فعلوا مع من سبقونا؟

رن الجرس لنقف في أرتال متجاورة، لم أكن أعي حينها ما معنى ترديد الشعار، كنت أحاول تثبيت السيدارة على رأسي والفولار حول عنقي، فيما يقف أستاذ في أعلى الدرج ويبدأ تعلمُ الحوار اليومي الذي سيتكرر طيلة أعوام الدراسة:

انتبه بالمكان، رتلاً ترادف

طلائع

اسبل

عروبة

استرح

طلائع

استعدّ

بعث

(نظام المنضم هذا لم ندرك كيف نوصفه، أو كيف نوصف ربطنا به وممارستنا له كل صباح، ونحن أطفال تتراوح أعمارنا بين السابعة والثانية عشرة).

يتابع الأستاذ؛ ترديد الشعار:

أمة عربية واحدة

ذات رسالة خالدة

أهدافنا

وحدة حرية اشتراكية

قائدنا إلى الأبد

الأمين حافظ الأسد

رفيقي الطليعي؛ كن مستعداً لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد والدفاع عنه

مستعد دائماً

استرح

طلائع

نصعد إلى غرفة الصف، صورة الأب القائد حينها (القائد الخالد لاحقاً) تعلو السبورة، بإطار موحد في كل الصفوف. نفس الصورة تتوسط غرفة الإدارة، ولأنها تصير جزءاً من ذاكرتنا المعرفية، نبدأ بملاحظتها على زجاج السيارات، في المحال التجارية، على جدران المنازل والشوارع. حالة من استجداء الرضا والعيش بسلام تعم السوريين داخل وخارج بيوتهم وأماكن عملهم.

كان علينا كل يوم أن نعلم من جديد أن الضوء في الصف، التدفئة، الشوارع المعبدة، الفرن الوحيد في القرية الذي بقيت أذهب إليه كل صباح حتى بلغت الحادية عشرة من عمري، أقف في الصف لأشتري الخبز للعائلة، كل شيء في حياتنا هو مكرمة من حافظ الأسد وحركته التصحيحية.

كان علينا أن نشعر بالمديونية له، فيكون رضوخنا تحصيلاً حاصلاً. كل شيء في حياتنا هبة منه، لذا نسلّم به قائداً أبدياً منعماً حكيماً.

مات القائد الذي بدا أنه لم يكن خالداً، وجاء ابنه، فاستبدلنا الاسم والصورة، وتابعنا الهتاف: “قائدنا إلى الأبد الأمين بشار الأسد”. 

حمص ٢٠٠٦

كنت طالبة في السنة الثالثة، أسكن بيتَ قريبة لأمي. كانت سيدة عجوزاً لا أولاد لها، وكانت تمتلك صوتاً جميلاً وقوياً مع أنها كانت في السادسة والسبعين من عمرها. في الأحياء الشعبية المتدينة من مدينتي كانت النساء تحتفل في أي مناسبة سعيدة بإقامة نوع خاص من الحفلات يدعى “المولد”. كنت أتعرف عليه للمرة الأولى، تجتمع النساء صديقات وقريبات في بيت صاحبة الحفل، وتأتي مجموعة نساء يمتهنّ الغناء لهذه المناسبة والعزف على آلة تسمى “المزهر” لكن الأغاني تقتصر على مديح الله والنبي محمد، لتأخذ طابعاً من الاحتفال الشرعي غير المخالف للدين، وكانت قريبة والدتي تعمل بهذه المهنة، فاقترحتْ أن أرافقها لأني أجيد العزف على “المزهر”، اليوم أعرف أنها كانت أول فرصة للعمل كـ “فريلانسر”، وبدأت أخرج معها في كل أمسية تدعى إليها.

كنت “مريدة” وكان طقس الدراويش يروق لي، كان صوتي يعلو بترديد المدائح، وكنت أبكي لا إرادياً وأنا أستشعر في المكان حضوراً نبوياً وملائكياً.

كانت النداءات مزيجاً من أحلام النساء وأوهامهن، في عالم فرض عليهن البحث عن فسح “شرعية” للتنفس.

في أحياء حمص القديمة، وأثناء ذهابنا للعمل، كنت أخفي “المزهر” في كيس كبير، أنا طالبة الآداب الباحثة بين سطور الروايات العربية عن مشهد حب قصير، (أكثر ما يمكن أن نحصل عليه من معرفة “ممنوعة”). كنت إذا شردتُ في سيارة الأجرة التي تقلنا إلى منزل أصحاب المولد تلعثمت بإجابة “الحجة” عن سبب شرودي في كل مرة استعدت فيها بعض المقاطع التي أقرؤها، ورغبت لو أفتح عينيها وأقول إن هناك عوالم أخرى أرحب وأوسع من هذا الذي نعيش فيه.

نصل إلى البيت، لا يهم فقيراً كان أم غنياً، فنحن سنتصدر المكان صغيراً كان أم كبيراً، مفرط الإنارة أم متواضعها.

على الطاولة التي تتقدمنا ستوضع “قماقم” ماء الزهر والورد، وربما أكياس ملح مفتوحة من أجل “التبرك” بما سيُقرأ من قرآن ومدائح.

ستبدأ الحجة بتلاوة شيء من القرآن، مع كثير من الأخطاء غير المقصودة، لأنها كانت أمية، تحفظ ما تقوله دون أن تدرك جزءاً كبيراً منه، وبالطبع لن تبادر أي امرأة بتصحيح الأخطاء لأن “النية” هي المهمة.

في كل مرة كنت أسمع قصة ولادة النبي محمد الأسطورية، النور الذي خرج في الحجاز فأنار قصور الشام..

كنا نردد المدائح ثم تعم النشوة ونطير إلى عالم آخر، النسوة اللواتي وصلن بالخمار والقفازات والملابس الطويلة يتجردن منها ويبقين بما يرتدينه من أثواب حاسرة وعطور، وعلى نقر الدفوف يرقصن، يتمايلن فتنشغل الكثير من الحاضرات عما يعشنه في تلك اللحظات ويغبن عما أتين لأجله من ذكر.

لم أكن أعي أن علي أن أحزن كثيراً لأجلهن وكذلك لأجل نفسي، كنت أغبط البعض وأحسد البعض، ثم أنتظر حصتي من الأجر لأدفع تكاليف المواصلات إلى الجامعة، فيما كانت الكثيرات ينتظرن انتهاء “الأناشيد” ليأتين إلى “الحجة” ويسألنها “الرقيا” لزوجة ابن مضى على زواجها ٤ أشهر ولم تحمل، علماً أنها في السابعة عشر من عمرها.

كنا نعيش في حزن عميق وظلمة ظالمة، كانت مناجاة الغيب (الفراغ) مسكناً لآلام لم نعرف يوماً كيف نصفها أو نتكلم عنها.

لقد غادرت تلك الطقوس بمشيئة الصدف وحدها، دون أن أعود للسؤال عن إحدى تلك النساء، الاختلاف يغرينا أحياناً فنفضل الاستئثار به، لكن هذه الذكريات دائماً ما تجعلني في حيرة من أمري، بين لوم شعبي لأنه رضي بالعيش طويلاً على ما يسكن آلامه، وبين التفكير بأن “الجهل” يكون في كثير من الأحيان ترفاً لا ندركه إلا حين نبدأ بامتلاك المعرفة. 

أيار ٢٠١٢

 لم نكن نعلم أنها آخر مرة ندخل فيها بيتنا بعد ٣ ليال من الاختباء من القصف في بيت الأقارب، الحصار اشتد، والقصف لا يكاد يتوقف، وعلينا بسرعة أن نقرر بشأن ما سنحمله معنا من بيتنا.

جدي البالغ من العمر ٩٦ عاماً يوزع نظراته في كل مكان، كم من الذكريات يستعيد يا ترى، ماذا يمكن أن يحمل معه بعد كل هذه السنوات وهو يجد نفسه مجبراً على الهرب.

والدي ابن السبعين عاماً يخفي وجهه عنا، يريد أن نعتبر قراره بالهرب نهائياً، أنا وأمي نحاول اختراع الأسباب لجعل مدة البقاء في المنزل أطول ما يمكن. نتذرع نسيان الأشياء المهمة، نجرب إقناعه أننا لا نستطيع ترك هذا الشيء وذاك…

كان صعباً أن نختزل المنزل بكيسين أو ثلاثة أكياس صغيرة.

أمي توزع النظرات على الجدران التي حملت حجارتها حجراً حجراً وناولتها لأبي حين كان يبنيها، تتلمس موضع الألم ليلة ولادة أخي الأكبر وهي تعمل بفرح شديد لتنهي هي وأبي بناء سور البيت الصغير، تلتفت إلى أحواض الورد التي زرعتها بعناية، بعد أن جمعت شتلاتها من جاراتها وقريباتها.

لا يمكن لذاكرة الزهر أن تخون، فماذا عن ذاكرتها؟

في هذه الغرفة الشرقية وضعتنا جميعاً، في هذه الغرفة ذاتها مارست الحب مع أبي وهي تعلم أننا لم نكن قد غفونا، لكن الجغرافيا تخذل الفقراء دائماً.

لن تستطيع أمي أن تضع الشرائط الملونة التي ربطت بها شعري في حقيبتها، هذه الشرائط موجودة فقط في ذاكرتها. لا نسطيع حمل ألبومات الصور، فالحاجز سيفتش كل شيء بحوزتنا، وإن شاهدوا الصور سيعلمون أننا نغادر بلا عودة. تركنا صور الطفولة وصور الأقارب الذين لا نعرفهم إلا من صورهم تلك، تركنا أشياء كثيرة نحبها. تركت مكتبتي التي قضيت وقتاً أجمع ما فيها من كتب، حملت فقط كتاباً لجون كوهين عن بنية اللغة الشعرية، كنت أحلم أن تغيير المكان لن  يمنعني من متابعة بحث الماجستير في اختصاص اللسانيات، وكانت فكرة جيدة أو ربما غبية أن أعبر الحاجز ومعي كتاب.

منزلنا الذي رأيت صوره بعد أن احترق، يظهر في جواز سفري كل مرة أقف فيها في مطار ما، الضابط الذي يهم بوضع ختمه عليه يتردد كثيراً، يخاف إن أنا عبرت أن أتسبب بحرق المنازل في بلاده، وأنا أجرب أن أجعله يفهم أنني لا أعرف كيف نجوت، ولست أكيدة أنني راغبة حقاً بدخول أي بلد. أنا الناجية من القصف العشوائي والمركز، من السجن، من رصاصة حرس الحدود، من برد الخيام، من احتمال الغرق بين السواحل التركية واليونانية، أنا المحظوظة أني أنتظر قراره بشأن ختم جوازي بعد نزولي من الطيارة وليس من القارب المطاطي، أنا التي أخشى إن عدت لبلادي الآن أن يقف أبنائي في الطوابير ليقولوا “قائدنا إلى الأبد بشار الأسد” أو “سيدنا محمد”، أخشى أن أحشر مع النساء مجدداً لترديد المدائح من أجل الهروب من الألم والشكوى، أخشى من وجوه الموتى حين ستطالعني في بلادي لتقول لي: كيف متنا نحن ونجوتِ؟

المصدر: مجلة “سيدة سوريا”

مشاركة

One Response

  1. وهل ان وصلت الى هنا وكتبت نصك هذا نجوت حقا مما عشت فيه عمرا سلف ؟شكرا ياسمين لايمكن لذاكرة الورد وذاكرة والدتك ان تخون فكيف يمكن لذاكرتك وانت الياسمينة ان تخون ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »