Search
Close this search box.

دولاب الأمل …

دولاب الأمل …

أحلام عساف

عندما لمست يده أناملها، التي دفعته للأمام وهي تمسك مقبض العربة، أحس بارتعاش لم يحس به من قبل، تيار عبر نصفه العلوي، ثم عاد واستقر على حواف دماغه المتعبة، ليخرج على هيئة سؤال، يصهل بجموح ويسري في نبض أوردته. هل تستطيع الاستمرار، وكيف لها ذلك؟ أمن المعقول بأن يكون هناك ملاك هبط على الأرض، حتى تستطيع أن تحمل صليب الجلجثة على ظهرها، وتصعد به حياتهما عن طيب خاطر؟ مرافقة ألمه الروحي والجسدي؟ لم يظن يوما أن جنته ستزامل  جحيمه، فيسكنها متدثرا بانتكاساته وعينه ترقب طريق الخلاص، نظر تجاهها، خلسة وتأمل جمال وجهها السمح، وقامتها الفارهة، وابتسامة تكابر لكي تكون طبيعية. رجع بذاكرته للوراء فحصد الكثير من الذكريات، غار ماضيه في هذه اللحظة، وجفت جذور أحلامه، ولكن ما زالت بسمتها تلامس حنينه، وتمده بقوة غريبة لينطلق من جديد.

اجتاز أسواراً بخيالات خاسئة، تسلق جبالاً تراكمت على مدى عام كامل من الآن، فسمع خلفها أزيز رصاص، وصوت انفجارات قريبة، ولعنة حرب خاض غمارها عريساً. قبل ذلك انداح في أذنه، صوت الضابط الذي أنزله من الباص على حاجز قرب العاصمة، كان الأبشع من بين الأصوات كلها، فلولاه لما كان راقدا على كرسيه المتحرك، ورجلاه قد فقدتا أي معالم للحركة، تراقبه زوجته العروس بصمت مكبوت.

بعد تأمل ضابط الحاجز لهويته الشخصية، نظر إليه بشزر. وقال: انزل!

قلبه قفز من نياطه، حتى خيل إليه بأن عظامه بدأت ترتجف، (ما هذا المشوار اللعين الذي جعلني أترك الجنة بعد شهر من عرسي؟) تمتم بخفوت موجع.

لكنه نزل والدمعة في عينه يكابر ألاّ تسقط، فيظنه جبانا أو خائنا لوطن يذبح كل يوم مئات المرات، غابت الحياة تماما أمام ناظريه وتسابقت الأسئلة وعصفت به، وهو يحاذي بحذر ضابطاً يتصيد أبناء وطنه على حواجز لم تحمه. كيف يخبر زوجته وأهله بأنه اقتيد إلى حرب مجنونة؟! لا سوف ينتظر قليلا ريثما تنجلي الغمامة، حدث نفسه المضطربة، ليتوصل بعد طول عناء إخبارهم أنه استُدعي للاحتياط، إلى نقطة ساخنة من الوطن، ولم يكن محتاطا.

تخيل وجه زوجته العروس، وشهقتها المريرة ودموعها المسكوبة، فهل ندبت حظها يا ترى؟ ووجه أمه وكيف اختلطت معالمه، وكم من مرة ستعيد اسطوانة الملامة، أنه لم يكمل دراسته، لكن هذه المرة بوجع ورعب من عدم العودة. انكسار والده وإخوته، وخوفهم عليه وهو الصغير المدلل، كلها خيالات راودته. ما إن وطأ أرض المعركة التي كانت تنتظره ورفاقه في أول يوم من عمره العسكري، حتى استقلبه الخوف الملازم لجوع كافر فتك برفاقه من قبله، كتمهيد لخسارته الكبرى. حاول أن يدافع عن بقائه لا أكثر، ناسيا كل ما يتعلق بخارج دائرة النار هذه، أصيب بقذيفة طائشة أفقدته وعيه والكثير من دمائه وأشياء أُخَر؟ بمعركة غير متكافئة البتة، ولم يستفق إلا وهو في مشفى في قلب العاصمة. كيف نقل ومتى وبماذا؟ أسئلة أجيب عنها فيما بعد، عندما أنقذه زميل له وقد شارف على الموت أكثر من مرة. (ليته تركني أموت، كثيرا ما ردد هذه الجملة في لحظات عجزه)، أوراقه الثبوتية بحوزته، رقم تلفون أبيه هو من أسعف رفيقه، ليتصل ويخبرهم بالنبأ المشؤوم كقصف الهزيم. رجفة سرت بجزئه العلوى تمنى اجتياحها لباقي الجسد الذابل، عندما تراءى له أنه سمع عويلاً وأصواتاً تداخلت لحظة معرفة خبر إصابته، في منزل كان قبل شهرين يضج بالزغاريد.

لم يعرف كم يوما بقي ملقىً على سرير متسخ، بعناية مخجلة لبطل مصاب مثله، كيف يهتمون به وأمثاله بالآلاف؟ كلام ردده أكثر من ممرض، كان يروح جيئة وذهابا، من غير أن يرف له جفن. أخيرا وصل الأهل الملتاعون إلى المشفى القابع  في العاصمة المنكوبة. أهله جميعا بمن فيهم مريم، وصلوا مع خيوط الشمس الأولى، سمع شهقات ورأى بعيون نصف مغمضة، بقايا ظلال لم يستطع تمييزها جيدا، صوت نشيج بكاء شديد عرفه مباشرة، وقد اختبره جيدا يوم ترك الدراسة.

لمسة خجولة أنعشت ذكرياتها المهترئة، وهي تمسد شعره، وشفاه ساخنة لثمت جبينه، كان قد تعرف عليها منذ شهرين، في ليلة رقصت فيها النجوم وباركت حبه بزواج بهي. كل ذلك لكنه بقي مجمدا لم يستطع الحراك، حاول بشجاعة  النهوض، دون جدوى. أنينه ما اخترق هواء الغرفة المشبع برائحة الدم والمعقم، وكسر ظلال خيالات بعودة ميمونة بالانتصار، من هزيمة نكراء تعصف بالوطن.  بقي يحاول ويحاول أن ينهض مجدداً حتى بعد التئام جروحه، والتحام كسوره، لم ييأس ولم يمل. نصفه الأسفل كان عنيداً أكثر مما يجب، رافضاً رعشة للحياة، يكلله حزن دفين بفقدان جزء منه. وليبق هو يحاول أن يقبض على الأمل ناظراً  إلى المستقبل، عله يستعيده ذات سلام …

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »