Search
Close this search box.

هدية العيد

هدية العيد

وجدان ناصيف

عندما كنا صغاراً كنت أكره عيد الأم. في المدرسة الابتدائية كان علينا أن نجلب هدايانا إلى المدرسة ونعرضها أمام المعلمة والتلاميذ. غالباً ما كان معظم التلاميذ يحملون البسكويت والراحة، وهي الحلويات الرخيصة المتوفرة في بلدتنا. نحمل هدايانا في أكياس ورقيّه، نحرص أن تظهر حجم الهدية وليس محتواها. بعض التلاميذ المحظوظين لأسر أعلى دخلاً، كانوا يحضرون (سفط) شوكولا، وأكثرنا حظّاً كان يجلب معه زجاجة عطر أو منديلاً. لكني لا أزال أذكر وبعد كلّ هذه السنوات عينين حزينتين لزميلة يتيمة الأم، كانت مُعفاة من إحضار الهدية، وتظهر لامبالاة مقصودة تجاه هدايانا الكثيرة المرميّة على طاولة المعلمة. لم أكن أفهم معنى أن نُطلع المعلمة وزملاءنا على هدايانا لأمهاتنا، وكنت غالباً أتمنى أن أختفي قبل أن تفتح المعلمة هديتي. يمكنني القول إنه في طفولتي ارتبط هذا اليوم بشعوري بالحرج، وبخوفي من سماع الأغاني الحزينة التي كانت تجعل أمي تبكي بسخاء طوال اليوم.

فيما بعد وأنا في طريقي إلى المراهقة، تمرّدت على كل شيء لكنّي تصالحت مع عيد الأم. تمرّدت على علب البسكويت والراحة وحتى الشوكولا، وأصبحت باقة ورد برّي من حاكورة بيتنا مع وعود كثيرة لأمي بهدايا ثمينه في المستقبل، كافية لأرى ابتسامتها قبل أن تعود إلى البكاء لدى استماعها لشادية وفايزة أحمد في أغنيتيهما الشهيرتين لهذه المناسبة.

عند وصولي الى دمشق للبدء في دراستي الجامعية، تعرّفت على أصدقاء من الكورد. يمكنني القول أنّي فوجئت حينها بجهلي بمكونات الشعب السوري، وفي عام 1985 تعرّفت إلى نوروزهم. تابعت كلّ خطوة في تنسيقهم للاحتفال، الذي يصاحبه الكثير من الإرادة والعناد والمرح والصعوبات والملاحقات والاعتقال حتى. ومع صباح أوّل أيّام الربيع، كنا مجموعة كبيرة هاربة بعيداً عن المدينة ومخبريها إلى أوائل الربيع والألوان والأغاني والدبكات والنقاشات السياسية التي لا تنتهي. لكن في العام التالي لم يمضِ هذا اليوم حتى أغرقناه بدموعنا وبخوفنا وبغضبنا مع وصول الأخبار: “النظام حاصر ركن الدين وأطلق رصاصه على المتظاهرين”.

لا أذكر بالضبط متى اشتريت أول هدية حقيقيه لأمي، لكن كان ذلك في وقت متأخر بالتأكيد.  في آذار 1989 صنعت لها جزدان صغير من الخرز في سجن دوما كتبت عليه جملة ستذكّرها بأغنية فايزة أحمد وتبكيها طويلاً “ست الحبايب”. بقيت تخبئه بحرص في صدرها لسنوات، ثم انتقل إلى زاوية في الخزانه عندما أوهن قلبها طول انتظاري.

كان عيد الأم هو اليوم الوحيد الذي يسمح لنا فيه أن نقيم حفلاً في باحة السجن، ولولا انشغالنا بتحضير فقرات الحفل لقلت بأنه كان أطول أيام السجن. لكن بفعل جهودنا لجعله يوماً للفرح وللاحتفاء بالأمومة، جذب إلينا الكثير من السجينات المقيمات، حيث بدأن فيما بعد يساعدننا في التحضير للحفل، ويطلبن المشاركة رغم أنهن كن قد تعرفتن للتوّ على “المسرح”. وأذكر أن إحدى السجينات من فئة الإقامة المؤقتة مازحتنا مرّة بعد انتهاء الحفل: “سأبذل جهدي للعودة لحضور حفلكم العام المقبل”!..

بعد خروجنا من السجن لم يتغير الكثير، وبقيت هديّة عيد الأم معلّقة إلى حين إنهاء الدراسة وإيجاد عمل. عيد النيروز تحوّل إلى رحلة في الغوطة، نكتفي فيها بعزف الأغاني والابتعاد ما أمكن عن الحديث بالسياسة والحقوق. كلّ شيء كان قد بدأ يبهت، وسرعان ما تحوّل إلى غبار في الذاكرة.

عندما أصبحت أمّاً فيما بعد، عرفت أن الأمومة هي الهديّة الأجمل والأعقد. كانت حزينة مثل أغنيتي شادية وفايزة أحمد، وكانت ملوّنه مثل النيروز، وكانت صعبة وشاقّة مثل السجن. فقط عندما أصبحت أمّاً فهمت مشاعر رفيقات المعتقل الأمهات ودموعهن، التي لم أكن أراها إلا في هذا اليوم لأربعة أعياد متتالية.

مع بداية الثورة بدأ هذا اليوم يستعيد ثقله المضني. فنحن الذين اخترنا أن نعمل مع أمّهات الشهداء وزوجاتهن منذ حزيران 2011، كان المضيّ لزياراتهن في هذا اليوم ليس بالمهمة السهلة أبداً. وكما فعلنا في السجن في محاولتنا التخفيف من وطأته، انهمكنا بتحضير الزيارات، الهدايا لأمهات المعتقلين والشهداء. كنا نمضي إليهن من دوما إلى حرستا إلى دمّر، والقابون، وبرزة.. وكنّ يرحبن بنا بابتسامات تتبلّل بالدموع بعد بضع دقائق. غالباً ما نتذكّر معهن الأبناء الذين رحلوا، ونشاركهن الذكريات الحلوة والصور.

علي القول إنّه في آذار 2014، كان من المستحيل زيارتهن. اكتفينا يومها بإرسال هدايا بسيطة مع نساء من مناطقهن مع بطاقات صغيرة، اختزلنا ما كتبناه عليها فيما بعد إلى جملة وحيدة تافهة: “كلّ عام وأنت يخير”. وهكذا أصبحنا جميعاً في معتقل كبير لا نستطيع تبادل الزيارات ولا تشارك الأحزان والفقد.

واليوم وبمرور عيدين في الغياب، أعود لتذكّر أمي وكلّ الأمهات السوريّات اللواتي يحلمن بعودة الأبناء من المعتقلات، ومن بلاد اللجوء ومن الغياب القسريّ. أحلم بيوم نعود لزيارة أمهات الشهداء، فيفتحن لنا ذاكراتهن وألبومات صور أولادهن  ويحكين لنا أحلامهن المزدحمة بهم.

اليوم ربما علينا أن نصمت لنسمع أصواتهن:

“هديتي هي أولادي ..أعيدهم إليّ..”

اليوم يا قلوبهن المتعبة .. يا قلب بلادي المضنى .. يا قلب أمي.

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »