Search
Close this search box.

هو هناك في اليرموك … رسالة إلى سيادة الرئيس

هو هناك في اليرموك … رسالة إلى سيادة الرئيس

نعمة خالد

سيادة الرئيس:

طالما شكرنا خالق الدود والسحاب، وطالما عملت بنصيحة أبي حين قال ذات يوم: احذروا أن تطأطئوا، حتى لو فدح الوجع.

وها نحن بين ريح وريح، وبين ترحال وسفر.

حاولنا جاهدين سيدي، أن نهز الزمن، ونسقط عن كواهلنا ذاك الزمن الذي ولى، حاولنا أن نجعل حاضرنا يتمخض عن ولادة جديدة. لكن الحاضر فتت عضدي، ولم يترك من صوتي سوى الابتهال، للقادر الأحد.

سيدي: ربما لن تعرف من وجوهنا إلا أقل القليل، رغم لقائنا القريب لمرات ثلاث، فنحن سيدي أكثر من المليون في الوجع، وأقل من نصفه في الحلم. رغم أن الأحلام لا رقيب عليها.

هل تعرف لماذا نحن أقل من النصف في الحلم؟.

فقط لأننا تفتقد إلى فارس يسرجها ويطلق لها العنان.

صبية في المخيم، والمخيم في سورية كثير، وقفت على شبابيك الانتظار تمشط شعرها، لكن وفجأة، ودون إنذار، تحول سلم بيتها إلى سلم مهجور، لا الصبية ظلت صبية، ولا الشباك ظل شباكا.

النهار سيدي يضمر في المخيم، ولا شيء يكسو الدروب إلا الشظايا والغبار.

سيدي: ربما زاد عددهم عن الآلاف الأربعة، ولا أبالغ، اولئك الذين لم يعد لهم خطى على الدروب. فقط صورة سوداء لمن كان لهم ترف التوثيق على أنقاض جدار.

والمنازل سيدي، عقوا أعتذر، لم يعد هناك منازل، أطلال هي سيدي، وما بينها تنسرب الذكريات خائفة، وعلى الطرف القصي لما تبقى من بيت، جلس العجوز يقرأ على ابنته ما تيسر من سورة ياسين.

سيدي الرئيس: كم عشقنا الياسمين، مثله مثل زعتر بلادنا، وكم كان صدر أختي مورقا بالحليب الكثير، لكنها سيدي، لم يعد للحليب في صدرها شفتين صغيرتين، أضاعتها القذائف، ومع صباح شتوي بارد، توزع دمنا على درج جامع عبد القادر الحسيني، وصرنا أشلاء بفعل طائرة.

سيدي: لماذا تغمض عينيك عن مستنقع دمائنا؟ وعن صوت طفل باك من الجوع؟ هل سمعت سيدي اصطكاك أسنان من البرد لشاب كان ينسل إلى الموت رويدا رويدا، في المتوسط ذات شتاء غير بعيد، حين تخلعت سفينة قديمة في عرضه لكثرة ما حملت من هموم؟ كان يبحث عن بعض أمان فتلقفه الموت هناك.

هل تحولنا إلى رقم في سجل المصالح الدولية؟ وفي نهائيات الماراثون المعد للمحادثات النهائية؟

هل اكون قد خنت الثوابت إن قلت: لم تعد تعنينا أرقام مثل: 194 أو 242.

ما يعنيني سيدي، صوت أم ملتاع يحفر داخل عظمي وهي تبكي صورة على هوية رماها مخبر في وجهها، دون أن يكلف نفسه عناء إخبارها أنه قضى تحت التعذيب في قبو في دمشق.

سيدي: منذ سنوات وفي الأردن، كنت قد حضرت مسرحية حملت عنوان أبو حليمة، قدمها فنان مقدسي اسمه سليمان دباغ، وأبو حليمة مناضل انكسرت أحلامه، اكتفى قائد بتكريمه وتركه نهبا للجوع.

ياه كم فرخ أبو حليمة في المخيمات، بل كم فرخت دروب المخيمات من موت.

احدهم ربما كان اسمه خالد، كانت ذراعاه تعانقان الغيم وهو يهتف لفلسطين، خالد صار اليوم زنبقة حمراء في سجلاتنا التي ازدحمت بالشهداء.

سيدي الرئيس: ربما أدرك أنك كونك رئيسا عليك أن تحدد مساراتك كالمسطرة. لكننا فلسطينيون ، نعيش في سوريا، أغلقت دوننا الحدود، ولم يبق لنا سوى الموت أو الموت.

نحب الحياة، نحب أن تعانق صباحاتنا ما تيسر من الشمس، لم نشأ الرحيل إلى خيمة أخرى، لم نرغب في المخيم أن يحشو ابن جلدتنا بندقية ويشرعها في وجهنا.

وفاطمة كم رغبت بطفلة تحمل قلبا طيبا، وتطرز لها ثوبا أبيض بعد عقدين. هل تعرف ما حل بفاطمة؟ في طريقها إلى المشفى وهي تكتم آلام مخاضها، أسكتوا قلبها.

صارت فضاءاتنا سوداء سيدي، وربما حصاننا خاسر، لذا لا تريد له أن يدخل حلبة السباق.

سيدي: لا أعرف إن كان يحق لي أن أخاطبك عن كل فلسطيني سوري، لكني سوف أقول لسيادتكم: لا تعتد على غيابنا، فنحن الحاضرين دوما، رغم أسفارنا والحرب الكثيرة، رغم الحصار، ورغم غيابنا عن سجلك اليومي.

نحن الحاضرين بموتنا وحزننا وصبرنا، مثل مآذن الأقصى، وأجراس القيامة.

فهل لك سيدي أن تسحب الخناجر من رقابنا؟

هذا صوتي المبحوح لكثرة ما استعصمت بكم وبسواكم، يهتف من جديد: أرغب أن أعيد المشط لضفائري، لكن على نوافذ اليقين، لا أريد جنائز جديدة، أرغب أن تعود رائحة الكعك لحواري المخيم.

هل ترى سيدي، لم أرغب أن أجعل من أحلامي أكثر طمعا، لم أطلب منك أن تعيدني إلى تلة  تطلق كل يوم أغاني الغزل على بحيرة طبريا اسمها المغار.

لا تذهب بنا سيدي إلى أخر المقابر، ولا تمنح من قتلنا صك غفران.

لا تترك سيدي للطفولة أن تتذوق طعم الكهولة باكرا. ترجل قليلا قرب جرحنا وجوعنا، انصت قليلا إلى دمعة من مقلة تكسرت في خيمة قصية عند الحدود في كلس التركية. توقف قليلا عند جلالة موتنا، وقل سلاما عليكم.

فمناديل الحداد سيدي غمرت كل الدروب، ولم يعد للحناء أياد سمراء تنتظر الفرح.

فقط قليلا توقف سيدي الرئيس عند سياج ما كان بيتا لي، وما كان مكتبة.

لا البيت قرميد حيفا، ولا الشرفة بيت عتيق في حارة مقدسية قديمة.

هو هناك في اليرموك، حيث مناديل الوداع تلوح في غرة الزمان النحيل، وما تبقى من عمر أحيائنا أضيق من الحياة وأوسع من الموت.

 اللوحة للفنان الفلسطيني: اسماعيل شموط

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »