Search
Close this search box.

“كلّنا في خندقٍ واحد”

“كلّنا في خندقٍ واحد”

نجاة مرشد

في التاسع والعشرين من أيّار 2012، الساعة الثالثة ظهراً… الجوُّ مشحونٌ بالقلق والخوف والترقّب والسريّة، حالةٌ لا نُحسد عليها!

هناك بجانب مستشفى الطلياني بدمشق، قرّرنا الاعتصام تضامناً مع أهل الحولة، وشجباً للمجزرة التي ارتكبت بحقهم من قبل قوات النظام وميليشياته. حملتْ لافتاتنا “لا للقتل.. لا للطائفيّة”، وبعضنا حمل ورداً أبيضَ.. أمّا لافتتي فكتبتُ عليها “حفيدتي جدّها علويّ.. جدّتها مسيحيّة.. أبوها درزيّ.. الشعب السوريّ واحد”.. وما أن تجمعنا ورفعنا لافتاتنا وبدأنا بالقسم “سنّي مسيحي درزي علوي…” حتى لعلع صوت الرصاص فوق رؤوسنا، وخلال دقائق قليلة انتشرت عناصر الأمن بيننا تضربنا بأعقاب البنادق، وتنزع حجابات النساء. أسامة ابني كان يحول بين قطعان الأمن والنساء، أمسكوا به وجرّوه إلى السيّارة، اقتربت منه محاولةً تخليصه من بين أيديهم، فشتمني أحدهم وصوّب بندقيّته إليّ، تراجعت بعد أن بصقت عليهم، ولكنّ أحد الشبيحة سلّمني إليهم فاقتادوني إلى الباص، يشتمون ويهدّدون ويتوعدون. كنا تسع نساءٍ وستة رجال، أوصلونا إلى فرع حافظ مخلوف، وما أن نزلنا من الباص حتى تلقّفتنا عناصر موتورة بالضرب والركل والشتم، أخذوا هوياتنا والموبايلات، هناك في الممرّ، هدّدونا بالذبح والقتل، وشتمونا بأقذع الألفاظ. قال للسيّدة الفلسطينيّة “لخلي اليهود يعملون ويسوون بك…”، أمّا أنا فقد ميّزني عن غيري ليوهم البقيّة بأنّني لست منهم، فقلت: “من يهين إحدانا فقد أهاننا جميعاً”، شكرتني إحداهنّ فقلت “كلنا في خندقٍ واحد!…”.

في الحادية عشرة ليلاً نقلونا لفرع الخطيب، وفي الصباح طلبونا للتحقيق. هناك طلب مني المحقق أن أجلس على الأرض، لكنّي لا أستطيع لديّ التهاب في المفاصل، فطلب مني الابتعاد لآخر الغرفة. اتّهمني بالمشاركة في المظاهرة، قلت ليست مظاهرة هي وقفة حزن واحتجاج على المجزرة.. قال: ومن مرتكبها. قلت: فليكن من يكون أبعدوا الأطفال عن صراعاتكم. حاول إظهار تعاطفه معنا ليأخذ المعلومات التي يريد. لكن عبثاً فعل ذلك!

في الزنزانة التي لا تزيد عن مترين عرضاً ومترين ونصف طولاً، تشاركنا المكان مع الصراصير والقمل والفئران، وتناوبنا الجلوس والنوم. كان باب الزنزانة يُفتح على ممرٍّ يعذّبون فيه الرجال، على مدار الساعة، جلدٌ وشتمٌ وتهديدٌ ووعيد بالقتل والذبح واغتصاب الأخت والأمّ والزوجة. صراخٌ وأنين، حالةٌ من الرعب لاتنتهي!.. والشقّ أسفل الباب كان نافذتنا إلى العالم الخارجيّ، عالم الممرّ الرهيب. كانوا يقطبون جروح المعتقلين ثم يضربونهم من جديد. يريدونهم أحياء. يتلذّذون بتعذيبهم!

في اليوم التالي، جاؤوا بأستاذةٍ جامعيّة، ضُربت وأهينت في جامعتها. كان جسدها أزرقَ متورِّماً. يبدو أنها لم تصدّق رواية النظام عن الإرهابيين، ولابدّ من عقابها. كما جاؤوا بسيّدة عراقيّة ومعها ابنتها الشابّة، سألناها لماذا؟ قالت أن أحد عناصر الأمن تحرّش بابنتها فهربت منه. وفي المساء داهموا منزلها بتهمة الإرهاب وحيازة السلاح، لكنّهم لم يجدوا شيئاً، فأخذوها مع ابنتها بعد أن سرقوا مالها. كانوا كلّ يومٍ يستدعون الفتاة للتحقيق لساعات طوال، وتعود زائغة العينين خائرة القوى، وجهها أحمر كالخوخ، تبكي طويلاً وتغطّ في نومٍ كابوسيّ. سألناها ماذا يفعلون بها، لم تجب.

أما التهديد بالذبح فكان لا يفارق ألسنتهم، انهارت فتاةٌ بعد خمسة أيّامٍ من اعتقالها إثر تلك التهديدات، وكانت معنا في الاعتصام، وضعوها في منفردة وأمّها في منفردة، وبقيتا ثلاثة أشهر تقريباً.

أمضينا أسبوعاً في هذا الفرع، استدعيت للتحقيق خلاله مرّتين، مكبّلة اليدين، مطمّشة العينين، والعنوان الأبرز كان التحريض الطائفيّ، خاصّةً وأنّني من الأقليات التي يدّعون حمايتها! بعدها حوّلونا إلى فرع فلسطين. الزنزانة أكبر قليلاً، وفيها ماء ساخن للاغتسال. هنا كان المحقّق أكثر احتراماً لي، والتهمة واضحة ومحدّدة “زعزعة أمن البلد بالتظاهرات”، وأعاد على مسامعي رواية المسلّحين والإرهابيين محاولاً إقناعي بها وبالمؤامرة الكونيّة على سورية الممانِعة!

أمضينا أسبوعاً آخر في كفرسوسة، وبعدها أُبلغنا بتحويلنا إلى القضاء. فرحنا قليلاً وخفنا أكثر! لم نستطع النوم ليلتها، ولمحت أحد الحرّاس يتجسّس علينا من “الطاقة”، وكان أمرُه مريباً!

في اليوم التالي، في الرابع عشر من حزيران 2012، نُقلنا مكبّلين مطمّشين إلى القصر العدلي، هناك طلب إليّ المحامي أن أغيّر إفادتي كي يستطيع إخراجي، يعني أنّي لم أشارك في الاعتصام، بل كنت أمرّ صدفةً بالقرب من ذلك المكان!

وخرجتُ للحياة من جديد. خرجت، لكن لا أدري هل هي الحياة أو الموت بلبوسٍ جديد؟

نجاة مرشد من مواليد السويداء 1956، معلمة وأمّ لأربعة أولاد.

اللوحة للفنان الاسباني بيكاسو

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »