Search
Close this search box.

في فراغ الذاكرة …

في فراغ الذاكرة …

شام المصري

بدأ نشاطي في الحراك السلميّ من أجل التغيير والديمقراطيّة منذ بداية الثورة عام 2011، حيث شاركت في المظاهرات السلمية في دمشق وريفها وبعض المحافظات الأخرى. تعرضتُ للتوقيف أنا ومجموعة من رفاقي لساعات عدة على خلفيّة إحدى المظاهرات، وأخلى سبيلنا لأننا من “الأقليات” التي يدّعي النظام حمايتهم. وفي مظاهرةٍ أخرى تعرضتُ للضرب من قبل قوات النظام، لكنّني تمكنت من الهرب يومذاك. كما شاركت في بعض الاعتصامات السلمية للمطالبة بوقف القتل والحصار على بلداتٍ ومدنٍ سوريّة عدّة.

ومع اشتداد بطش النظام، وتوغّله في استخدام القوة العسكرية ضد المدنيين المنتفضين السلميين العزل، وضد المناطق السورية المنتفضة عموماً، كان لا بدّ لي، كالكثيرين، من الانتقال من مرحلة التظاهر والاعتصام إلى العمل الإغاثي والميداني الإنساني والطبي والتنموي لأي مكان أستطيع الوصول إليه، وكانت المرحلة تتطلّب منّا السريّة التامة. وفي إحدى المرات اشتدّ قصف طيران النظام الحربيّ على مناطق في ريف دمشق، وقد طال المدنيين هناك، وكان لابدّ من أن أشارك في إيصال المواد الطبيّة والإسعافيّة إلى تلك المناطق التي تعرّضت للقصف، لكنّني وقعت في كمينٍ نصبته “قوات النظام” و”الدفاع الوطني” و”المخابرات الجوية”, فحوصرتُ وألقيَ القبض عليّ، غطّوا رأسي بكيس من القماش، وكبّلوا يديَّ إلى الخلف تحت تهديد السلاح، ثم قاموا بشدّي من شعري وشحطي مسافة 50 متراً تقريباً، حيث وضعوني في سيارة مدة نصف ساعة، ثم فتّشوا السيّارة التي كنت أستقلّها، وأخذوا ما فيها. نقلوني بعد ذلك إلى مركز “اللجان الشعبيّة”  واحتجزوني هناك مدة ساعتين تقريباً, عرفت بعدها أنّهم داهموا بيتي، وكان ابني ذو الثانية عشرة من عمره وحيداً هناك، فتّشوا البيت وصادروا جهاز اللابتوب والكاميرا ومواد طبية، وسرقوا بعض المقتنيات على مرأى ومسمع من ابني، بعد ذلك اقتادوني إلى مقرّ “الفرقة الرابعة”، وهناك جرى الاعتداء عليّ بالضرب، وحقّقوا معي بأسلوب مهين لمدة 3 ساعات تقريباً, قبل أن يحوّلوني إلى فرع آخر حيث بقيتُ فيه مدة 40 يوماً.

في ذاك الفرع، استُدعيتُ من الزنزانة من أجل التحقيق، وكنتُ مكبَّلة اليدين ومطمَّشة العينين، وكان هناك ستةٌ من العناصر، تعرَّفتُ إلى عددهم من خلال تمييز أصواتهم. أثناء التحقيق، صُفعت على وجهي وهُدّدت على وقع أصوات تعذيب المعتقلين لإجباري على “الاعتراف” بأني “إرهابية”، إذ كيف لي أن أتعامل مع الإرهابين التكفيرين وأنا من “الأقليات” التي يعملون “حمايتها” من الإرهابيين والتكفيريين؟!.. هكذا قالوا لي.

وكان التعذيب النفسي والمعنوي فيما بعد أشدّ قسوةً من الضرب والتعذيب الجسدي. أضربتُ عن الطعام مرتين بلا جدوى. كانت الزنزانة معتمة جداً والطعام بائساً بؤس أيامي في تلك الزنزانة.

أقمت في هذا الفرع مدة أربعين يوماً, كان يُساق إليه الكثير من الرجال والنساء والشيوخ والشبان، وبعضهم لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره، والبعض الآخر يُحوَّل إلى أماكن أخرى، أما أنا، فقد كنتُ وحيدة مرمية في ظلام تلك الزنزانة، أراقب بصمت من خلال تلك الفتحة الصغيرة في باب الزنزانة.

ولأنها أول تجربة اعتقال لي، كانت تراودني ملايين الأفكار والأسئلة، ناهيك عن المخاوف التي راودتني حيال ابني، خصوصاً بعدما عرفتُ أنهم دهموا المنزل، وهو موجود وحده فيه. رحتُ أتخيَّل أنهم اعتقلوه. عذبوه. فكرتُ في أنهم قد يبتزّونني، ويعمدون إلى تعذيبه أمام عينيَّ. فكّرت بوالدتي أيضاً التي كانت تعلم أنني أفعل شيئاً ما في هذه الثورة لكنّها تجهل ماهيته, كان صوتها يستولي على ذاكرتي، ويملأ أذنيَّ. صوتها الملهوف الذي كان يتناهى إلى سمعي وهي تحاول ثنيي عن أيّ فعل ثائر، خوفاً عليّ وعلى ولدي من بطش النظام وأجهزته الأمنية .

كانت أفكاري مشوَّشة وسوداء في ظلام الزنزانة. وكنتُ أسألني دائماً: ماذا سيفعلون بي ؟! هل سأُضرَب؟! هل سأُغتَصب؟! هل سأُشبَح؟! وهل سأتحمَّل ذلك كلّه؟!..

استمرّ التحقيق معي في ذلك الفرع ليومين اثنين. ففي اليوم الأول، وبعد ساعتين من نقلي في إليه، وكانت الساعة حوالي الثامنة مساءً, نادى السجّان عليّ باسمي، وأخرجني من الزنزانة بعد أن عصب عينيّ وكبّل يديّ وأوصلني إلى غرفة التحقيق. أوقفني عندها، وسمعت صوتاً يصرخ فيّ بصوت عالٍ لكي أخلع حذائي، فخلعتُه وكانت الأرض ممتلئة بالمياه، ثم صرخ الصوت نفسه، ثانية لكي أخلع جواربي. عندما انتهيت من خلعِ الجوارب، جرّني حافية القدمين في ممر طويل لم أعرف مداه. أصابتني رجفة لأول مرة وكأنني أرقص. لم أقدر أن أضبط ارتجافي، ومن شدة خوفي أحسستُ بفراغ شاسع ملأ تلافيف عقلي… فراغ مظلم تاهت فيه ذاكرتي والأسماء والأماكن والأحداث وكل شيء.

بقيتُ أحس بهذا الفراغ، إلى أن وصلتُ إلى مكان أوقفني فيه مَن كان يجرّني. عرفتُ من خلال الأصوات، أن أشخاصاً كثيرين كانوا متواجدين فيه. كان ثمة صوت في الغرفة نفسها، يصرخ: ” يا سيدي ما دخلني. والله ما بعرف شي.. مشان الله ماعاد تضرب “. حاولتُ تمالك نفسي ومنعها من البكاء والصراخ، وانتبهت لصوت خطوات تقترب نحوي، سألني أحدهم: ما اسمك؟ فقلت له اسمي، ثم أردف: كم عمرك؟ فأخبرته، وكنتُ آنذاك في الرابعة والأربعين من عمري. فصرخ ثانية: ” كم عمرك ولي؟ “، فقلت له: “بطاقتي الشخصية لديك بإمكانك التأكد”.  كان جسمي النحيل ومظهري يوحيان بأني أصغر سناً من ذلك، لذا أعاد السؤال عليَّ. عندها ساد صمتٌ لوهلة، ثم سمعتُهم يضحكون ويتهامسون: “معقول هيك عمرها!”. السؤال الثاني كان: “إلى أين كنتِ ذاهبة في السيارة؟”، فأجبته، وقبل أن أكمل إجابتي، صفعَني بقوة على وجهي فالتصقتُ بالحائط , وأكملت إجابتي بعدما لملمتُ ألمي, ثم قال لي بنبرة غضب ممزوجة بلوم: “لماذا أنتِ؟ لماذا وأنتم “أقلّية” مثلنا يحميكم النظام من هذا الإرهاب؟”. صفعني مرة أخرى بقوة أكبر، فانفجرتُ بكاءً بصوت عالٍ. لم أتمالك نفسي كأني جمعتُ بكاء سنيّ عمري وانهمر كلّه في هذه اللحظات. بعد ذلك، تناهى إلى سمعي صوت آخر سألني سؤالاً مهيناً: “هل أنت متزوجة؟”، قلت: نعم. فقال: “وهل زوجك ينام معك ويشبعك أم لا؟”.. لم أجب .

كان فمي يغصّ بالصراخ ودمعي ينهمر دون توقف، وأثناء ذلك كلّه، كان الضرب والتعذيب لا يزالان ينالان من ذلك الرجل الملقى على الأرض وصراخه يختلط بدموعي التي باتت تنهمر على كل شيء , حتى صوت أنفاسه وأنينه أصبحت أرى جزءاً منه!. من شدة الصفع على وجهي، انزاحت العصابة عن عينيَّ بضعة ميليميترات، فصرتُ أرى الشيء اليسير من حولي.

ذاك المحقق، كان يهددني على مشطَي قدمَيَّ بالعصا الغليظة نفسها التي كان يضرب الرجل بها. رأيتُ مدى غلاظتها من تحت العصابة، وسمعتُ هول تأثيرها على قدمَي الرجل الآخر الموجود معي في غرفة التحقيق نفسها.

حال من الرعب لم أكن لأتخيلها، على الرغم من أني كنت أتابع وأوثق الانتهاكات التي يرتكبها النظام. هنا الوضع مختلف عن كل ما تخيلتُه وسمعتُ عنه ودوّنته, فحين نعيش الحالة ونكون في وسط الدائرة، تنبثق مشاعر ليس من شأنها أن تُكتب.. وأحاسيس ليس من شأنها أن تُوصف.. ثمة أشياء تعني مَن يخوض هذه التجربة وتخصّه، لا يمكن سردها ولا يمكن أن تصل إلى أي شخص “آخر”، تبدو معها الأبجدية كأنها لم تُخلق بعد لتفيَها حقَّها، لذا تبقى داخل كل شخص خاض هذه التجربة كوشم بالحديد والنار, قد يداوي ألمه مرور الزمن عليه، لكنه يبقى محفوراً.

لا أعلم ما التوصيف اللائق به , شعرت باتّقاد جميع الحواس لدي مع فقدان ذاكرة وفراغ وظلمة وهلع من الآتي وما التالي الذي ينتظرني.. ماذا في جعبتهم بعد!؟؟…

ضبط النفس محاولة لإعادة التوازن حتى لا تُقرأ ملامحي , صراع لا يوصف ..

ثم تابعوا أسألتهم فكنت أجيبهم أحياناً وأكذب أحياناً وأصمت أحياناً أكثر لأقرأ ما بين أنفاسهم وكلامهم إلى أي مدى يعرفون, ولكن أصواتهم المرتفعة تثير الرعب وتوهمني بأنهم على دراية بكل شيء , تفقدني بعضاً من التوازن الذي أحاول لملمته إلى أن صرخت بصوت عالٍ ولا أعرف كيف فعلت .. يكفي ضرباً ما ذنبه ؟ ما جريمته ؟ فضحكوا جميعاً وقالو لي: “إحكيلنا كل شي ورح نتعاون معك” فصمّتُ , عندها تمنيت أن ينهالوا عليّ ضرباً كي أخفّف على نفسي وطأة كلماتهم المسمومة وهمساتهم القذرة, استمر التحقيق لساعتين تقريباً ثم أعادوني إلى غرفة الحجز بالطريقة نفسها التي أخذوني بها .

كان بانتظاري فتاتان, هدأت نفسي قليلاً وبدأت بمحاولة ترتيب أفكاري ثانية واستيعاب ما حدث لي وكيف وصلت إلى هنا؟!..

لن أستطيع أن أُكمل الآن.. سأعاود الكتابة في وقتٍ آخر.

اللوحة للفنان السوري: لؤي كيالي

خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »