Search
Close this search box.

غدا نلتقي …

غدا نلتقي …

وجدان ناصيف

“إنّه .. هذا قدر يعني، والاّ جنان؟” .. يصدمك السؤال الذي طالما سألته حين يأتي فجأة على لسان محمود، أحد شخصيات العمل الدرامي السوري “غداً نلتقي”. سنوات مضت والسوريون يعيدون هذا السؤال ويناشدون الله ويرجونه بأن لا يكون قدراً .

هل هي حقاً أقدارنا من أوصلنا إلى هنا ؟ أم أنّ أقدارنا من صنع خياراتنا، فماذا لو ضاقت الخيارات؟

أقدار شخصيات مسلسل “غداً نلتقي” رُسمت منذ اللحظة الأولى حيث وقعت جميع الشخصيات في مصيدة الخيار الوحيد: من يلجأ لساديّ للتخلص من مجرم سوف يقتل على يديه، ومن يسوق لداعش سوف يقتل تحت سيفه، ومن يعيش في الماضي سوف لن يكون له مستقبل، ومن يحمل مورثات مرضيّة سوف تقضي عليه.

لكن لو عشنا في غير هذا المكان وهذا الزمان، أترى كانت هذه أقدارنا؟

يبرر جابر، أحد شخصيات المسلسل، تفكيره في العمل في تجارة الحشيش: ” الظاهر لما مننحشك بخانة اليّكْ منطالع كل الدرر الليّ عنّا … بيصير بدنا نخلص … كيف وشلون… ما بيهمّ!”

خياراتنا هي من يرسم أقدارنا، كلنا نمشي إليها، وفي طريقنا نتورط عاطفياً بحب بعضنا وبحب ما حولنا، نحب الأطفال ونحب الورد والشعر والبحر والحياة والرقص وكل ما هو جميل.  لكن في ظروف الحرب اللا إنسانية  تتضخم الورطة وتصطدم بعجزنا وقلة حيلتنا فتصبح مع الزمن سجناً جديداً ونفقد كل الخيارات.

هل الحب قدر إذاً أم خيار؟

لحظة ، ألا يعدّ التفكير بمثل هذه الأسئلة الوجودية في ظرفنا الراهن ترفاً؟

في حضرة الموت المجاني يبدو كل ما نقوم به ترفاً، حتى كتابة هذه الأسطر.

هل قَدًرْ سوريا أن تكون فلسطين أخرى كما يطرح المسلسل؟ ليس مصادفة هذا التشابه بين القضيّتين، وطن ضاع وشعب مهجر ولاجئ أو ميت أو سجين. هل سيكون مصير مفاتيح البيوت التي حملها السوريون مثل مصير تلك التي حملها الفلسطينيون عندما هربوا من الموت الى بلاد النزوح واللجوء؟ وهل ستحاسبنا الأجيال القادمة لأننا راهنا بمستقبلنا وبمستقبلها؟ هي ليست أسئلة تبحث عن أجوبة ، فمن قال أنّ الأجوبة، في معركتنا الوجودية هذه، أهم من الأسئلة؟

ليس المسلسل ما أريد الحديث عنه ، فقد كُتب وسيكتب الكثير عنه وهو يستحق ذلك وأكثر. ما أريد الحديث عنه هو نحن في المسلسل وحياتنا التي تشبه إلى حدٍ كبير حياة شخصياته، ملامحنا في وجوههم وكلماتنا القليلة على شفاههم. لقد كان عبر حلقاته الثلاثين مسباراً، اقتحم دواخلنا والتقط تفاصيل ندركها لكننا لا نعترف بها. هم نحن السوريّون في محنتهم وفي تشوهاتهم وفي انسانيتهم الراقية وفي طيبتهم وفي قسوتهم وفي عجزهم .

سوف تبذل الكثير من الجهد لتراهم في خلفية الصورة المعتمة،  حيث تغيب الألوان وتحظر الشموع الشاحبة وشواحن الكهرباء، حتى لتبدو الوجوه عندما يسلّط عليها الضوء وسط العتمة مثل تماثيل شمعية ستذوب في حضرة الضوء.  سوف تفتش عنهم في منفاك وتشتاق للحديث وحتى للخلاف معهم. سوف تبحث عنهم في سيارات دفن الموتى وفي السرافيس وفي شوارع المدن والعواصم الغريبة وفي القوارب المهددة بالغرق. هم حولك أينما نظرت، ربما مررت بجانبهم كثيراً لكنك لم تلتفت إلى وجوههم وحكاياتهم التي هي حكايتك.. هل كانوا هنا أم لم يوجدوا أصلاً إلا في كابوسك وعلى شاشة حياتك الكئيبة؟

في الحوارات القليلة في المسلسل سترى عجزك عن التعبير، وفي النقاشات  السياسيه المكررة بلا جدوى، سترى كم أنت هزيل.

في جلسة بين الشقيقين المختلفين سياسياً يبوح على نحو غير متوقع محمود لأخيه بصوت خافت بالكاد تسمعه، لكنه صوتك، ستعرفه من ايقاع قلبك: “أنا كثير ضعيف”، ويرد عليه جابر بدون تردد: “إي وأنا !” .

لكل شخصية في المسلسل حكاية  مثلما لكل سوري اليوم حكايه.  لكن “الحكي ” غاب عن معظم المشاهد. الصمت وحده كان مشهداً واقعياً بحجم المأساة.

لكن الأمر ليس بهذه السوداوية فلازال هناك بصيص أمل: ستفرح لأن (وردة) نجتْ من قارب الموت ووصلت إلى فرنسا.  ستمشي معها في (الشوارع النظيفة) حيث يقف الحمام على كفك بدون خوف. ستدهشك المدن بجمالها، لكنها ستبقى غريبة عنك وبعيدة مثل لوحة في متحف، ستراها لكنك لن تكون قادراً على لمسها. وستبقى طويلاً تنظر في الوجوه، تبحث عن وجه تعرفه لكنك قد لا تصادفه ابداً. هي وحدتك التي كانت خياراً وحيداً في لحظة ما.

سيغيب صوتك وأنت تحدث السوريين في بلاد أخرى عبر الهاتف : ” عندنا.. نسميه تيتر دو سيجور (هوية لاجئ).. ماذا يسمونه عندكم؟” وستحزن لأنك وفي اللحظة التي ستستلم بها هويتك الجديدة  ستدرك أنك كنت منذ بعض الوقت بلا هوية وبلا وطن، وأن التذكرة التي قطعتها الى هنا كانت  في اتجاه واحد.

ستمضي مع (وردة) الى الشاطئ وسوف يذكّرك البحر بالأحباب، الأحياء منهم والغرقى، وسوف يزعجك كيف تشوهت ذاكرتك حول البحر وحول المدن التي طالما عشقتها بعدما صار كل من تعرفهم في الغياب.

وفي النهاية  ستمسك القلم والدفتر مثل وردة،  وعلى عكس ما يتوقع منك، لن تكتب حكايتك لأن لا أحد يهتم، ستبدأ بتعلم لغة جديدة مثل طفل صغير. سوف تتداخل الحروف في فمك لتشوه الكثير من المعاني. ستردد معها في الدرس الأول: “اسمي وردة، عمري سبع وثلاثون … أنا سوريا … أحب الشعر … أحب غزل البنات… أحب التبولة … أحب الرقص … أحب …”

وسوف تبتسم وأنت تكتشف أن الحبَّ ربما يكون قدراً،  مثل المنفى ومثل الفقد ومثل الحرب، بل الحبُّ وحده سيكون الخيار الأكيد، إنْ كنّا حقاً غداً سنلتقي.

 خاص “شبكة المرأة السورية”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »