خولة سمعان
لا تقل مرحلة ما بعد اللجوء شقاءاً عما سبقها، إنها سنوات طويلة لاقت فيها السيدات اللاتي أرغمن على مغادرة منازلهن، الكثير من العناء والحرمان والمصاعب، حتى جارت على أجسادهن وأنفسهن.
ولأن المرأة هي من يقع عليها عبء الأسرة بكاملها، بالإضافة إلى موضوع الحمل والولادة والإرضاع والتنشئة، مع ما تتطلبه مستجدات الحياة في اللجوء، ما يدفعها إلى العمل في ظل ظروف غير مناسبة، مجهدة ومجحفة أحياناً.
إننا – بالتأكيد – لا نتحدث عن أنظمة تنحيف صحية من أجل المرأة اللاجئة، وإن كان ذلك من حقها، ولا عن أنواع الماسكات التي تنعم البشرة، ولا الخلطات العجيبة من أجل شعرها، وأكرر أن هذا من حقها أيضاً.
غير أننا نقول ما قاله الشاعر محمود درويش:
“إنا نحب الورد
لكنا نحب القمح أكثر “
أجل، إننا نولي الأهمية لصحة المرأة اللاجئة الجسدية والنفسية كي تتمكن من الاستمرار.
إن الشخصيات الثلاث اللاتي سأعرض معاناتهن الصحية حقيقية، قمت فقط بتغيير الأسماء:
1- نجوى (أنا نجوى، أعيش في مخيم (كهرمان مرعش) للاجئين في تركيا مع زوجي وأولادي الثمانية، في الكرفانة المتاخمة لنا تعيش ضرتي وأولادها الأربعة، لديها ابنتان متزوجتان وتعيشان في مدينة أضنة مع زوجيهما، أما ابنها الكبير أحمد فهو يعمل في إحدى الورشات في استنبول، زوجي الشيخ أبو أحمد يعمل، أجل هو يعمل، لا تستغربي! هو يقوم بعقد القران للشباب والشابات المقبلين على الزواج، كذلك هو يقوم بإجراءات الطلاق لمن ينوي الطلاق.
لدى قدومنا إلى تركيا هاربين من خان شيخون، كنت حاملاً بابني غالب، هذا هو (تشير الى صبي صغير يلهو قريباً منها مع طفلتين أخريين) لقد ولدته هنا، في المخيم، بعد الولادة بدأت أشعر بضعف في نظري، في عيني اليسرى تحديداً، ثم بدأ جفناي بالارتخاء وأخذت كتلة حمراء وبجانبها بقعة بيضاء تتشكلان على عيني، حتى شح نظري كثيراً ، ذهبت إلى المستوصف في المخيم فقالوا يجب أن تذهبي إلى مشفى أخصائي، ذهبنا أنا وأخت زوجي إلى مشفى مختص في مرعش، فقال الطبيب: يجب إجراء عملية جراحية في الحال. لكني لم أكن أملك النقود، إنها مكلفة جداً.
بدأت بالسؤال، لم ندع أية منظمة أو جهة ممن يساعدون اللاجئين، كانوا يأخذون الملف ولا يفعلون شيئاً . انتظرت وحاولت ولم ألق إلا الوعود في أفضل الحالات.
بدأت عيني الثانية تضعف وأخذت الأعراض نفسها التي ظهرت على اليسرى تظهر على اليمنى، ثانية قال الطبيب لا بد من إجراء عملية جراحية.
أخبرت زوجي، قلت له لم أعد أرى إلا ظلالاً، لا بد من الجراحة أرجوك تدبر أمري، فسكت ولم يقل شيئاً.
لجأت إلى أخيه، لعله يقنعه بمساعدتي فهو يستطيع، لقد سمعته وهو يقنع زوجي بضرورة اجراء العملية. وسمعت زوجي يقول: (هذا مبلغ ضخم، أستطيع أن أتزوج به بامرأة ثالثة أصغر سناً من نجوى وأقوى.)
أحزنني قوله هذا كثيراً، وتذكرت أحزان ضرتي أم أحمد، لكن ماذا بيدي أنا؟ هكذا أراد أبي.
أخيراً. لجأنا أنا وأخت زوجي إلى أصحاب الخير. جمعنا صدقات لابأس بها وأجريت العملية، لقد سلمت عيني اليمنى، لكن هذا البياض في عيني اليسرى سيبقى لأني تأخرت عليها.
2- رشيدة
سيدة من حلب في منتصف الخمسينات من عمرها، فقدت زوجها وبيتها، تعاني من كآبة مزمنة نتيجة هزات نفسية متوالية، أدت إلى اضطراب ( تبدد الشخصية) وإنكار الواقع، عدم قبوله ( Denial ) هي تعيش الآن مع ابنها وزوجته وأولاده في إحدى المناطق التابعة لمدينة غازي عينتاب في تركيا. وهذا جزء من حديثها:
هل تعلمين؟ إن أشجار الرمان في حديقة منزلنا أفضل من هذه، لقد جلب حمدان الغراس من مزرعة ابراهيم بيك، لدينا في حديقتنا شجرة تفاح وشجرة كرز وورد جوري. تعالي أريكي الورد الأصفر، ليس مثل هذا (تشير إلى جهتين معاً) حين نجلس على الشرفة تصبح الحديقة أمامنا، منظر جميل جداً، أترين؟ لقد بدلت بنت عمي الكراسي. هاه! أنا أوصيت على كراسي خيزران. كلفوني والله. وضعتهم على الشرفة، بنت عمي أخذتهم ووضعت هذه الكراسي البلاستيك. ندخل من الصالون مباشرة، ابني حسان لم يقتنع في البداية، لكن حمدان، ألم أخبرك؟ حمدان زوجي توفى في الطريق… حمدان قال لي لا تهتمي سنغير الديكور، صحيح يجب أن يكون الباب هنا، بعد قليل سيأتي حمدان إسأليه بنفسك، اي والله هناك وضعت مزهرية جميلة جداً، لا هناك في بيتنا في حلب. عمارتنا أجمل كل العمارات. على حافة الشباك القبلي وضعت أصص الورد. كان عندي ورق الصالون، كم كان جميلاً.. كانوا يحسدوننا، كلهم يقولون عمارة بيت حمدان تأخذ العقل، بنت عمي أكثر واحدة تحسدني، طبعاً لأن البلكون يطل على السوق، هيا تعالي شاهدي بنفسك.
3- بهيرة
سيدة في الثلاثينيات من عمرها، فقدت سمعها إثر حمى أصابتها في طفولتها، لم يهتم أهلها بعلاجها، في ظروف الحرب الدائرة في البلاد زوجوها أهلها لرجل أرمل في أوائل الستين، لديه عدد من الأبناء والبنات والأحفاد، جاءت معه إلى تركيا هرباً من القصف الأعمى. ونظراً لكبر سنه وللأمراض التي حلت به كان عليها أن تعمل رغم إعاقتها (ضعف السمع). آخر النهار تخرج بهيرة من الماركت حيث تعمل فيها في التنظيف، تجر وراءها عربة تضع فيها ما تستخلصه من النفايات ( علب كرتون، ورق ممزق، قوارير بلاستيك فارغة… ) تأخذها إلى ساحة الدار وتفرزها هي وزوجها المقعد لبيعها والحصول على بعض المال.
منذ أحد عشر شهراً تطلقت ابنة زوجها التي كانت تقيم في استنبول، جاءت مع ولديها لتعيش مع أبيها وزوجته بهيرة، التي وجدت فيها متنفساً لتنفيث غضبها وحنقها، فتارة تتهمها بالتقصير، تقول لأبيها: ” زوجتك بهيرة خبيثة، إنها تدخر الأموال لنفسها، وتارة تقول إنها: أي بهيرة لا تساعد في تنظيف المنزل. ولما كانت بهيرة لا تسمع فهي لا ترد بشيء، مما زاد في حنق تلك، لذلك أخيراً أمسكت بهيرة من ذراعيها وصرخت بها قائلة: أنت لا تنفعينا بشيء، أنت، أنت، أنت عاقر.
العبارة الأخيرة آلمت بهيرة كثيراً، لم تنم ليلتها وهي تبكي وتفكر، لقد قررت الحصول على طفل، لكنها لا تملك المال من أجل العلاج، سألت واستشارت ورضخت لتجارب القابلات اللاتي يعملن سراً في منازلهن، حلمها بطفل ( يشيل كبرتها) يكبر وألمها يكبر والسقم يشتد في جسدها.
لم تعد تستطيع العمل ولا النهوض. وصار أملها اليوم أن تتعافى من النزيف الذي يعاودها كل فترة ، فهي تتلقى العلاج في أحد مشافي الحكومة التركية في مدينة غازي عينتاب.
اللوحة للفنان: اسماعيل الحلو
خاص “شبكة المرأة السورية”