خولة سمعان
هي وحدها تعرف معنى هذه الإلتفاتات السريعة، الواجفة، الخائفة، مريم وحدها تدرك ماذا يعني أن تصل إلى هذا اليوم، إلى هذه الصورة، هل تصدق ما تراه عيناها؟ تكاد لا تصدق! فإن مشهد ذلك اليوم من تشرين الثاني / نوفمبر 2012 لا يزال راسخاً في ذاكرتها، حينما هربت من الموت المحتم مع أولادها الأيتام الصغار، كذلك فعل معظم أهالي قريتها ، لقد عبروا دروباً وعرة بين الجبال والسهول والوديان سيراً على أقدامهم، مَن خفَ حمله وقوي جسده كان في المقدمة، والأمهات اللواتي يحملن أطفالهن وأشيائهن الصغيرة، كن بلا وعي، يركضن ليلحقن بالقافلة الهاربة من جحيم القتل الشنيع، فإن هؤلاء الذين دخلوا القرى المجاورة وذبحوا الأطفال والنساء وهم نيام قادمون، وهذه الطائرات التي تبث الرعب في القلوب بأصواتها القريبة تلوح بالرعب الآتي كما في كل مذبحة مريعة، وهم – لا محالة – سيذبحونهم ذبحاً، سيذبحون أطفالهم أمام أعينهم …
اشتد الظلام والمجموعات من الأهالي لا تزال تتسربل في الوحول والحجارة والتراب، تركض بجزع ورعب لعلها تعبر الحدود وصولاً إلى تركيا، لا مجال للإستراحة، لا مجال للوقوف، ولا حتى للإلتفات نحو الخلف، حيث تركوا بيوتهم التي كانت وادعة في قراهم التي أمست مستباحة، آنذاك دوىّ هزيم هائل، كأنه قذيفة مدفع، تبعه أصوات إطلاق نار كثيف، صاح أحدهم : هيا، هيا بسرعة، لقد لحقوا بنا.
في هذه اللحظات – تقول مريم – ذاكرتها مُسحت تماماً، فهي لا تعي كيف هبطوا في هوة وادٍ سحيق!
وصلت مريم مع الكثيرين الذين وصلوا إلى إحدى القرى الحدودية في جنوب تركية ( نورداغي )، افترشوا حديقة البلدة متعبين مرتجفين، مذعورين، جائعين … ثمة امرأة ضعيفة البنية تبكي والنساء يتحلقن حولها، يبدو أنها لا تستطيع النطق، إنها هي مريم التي أضاعت ولدها الأكبر (أحمد) في هول ذلك المساء المخيف، يقولون أنها نظرت حولها فلم تر ابنها أحمد، فهمًت أن ترجع أدراجها لتبحث عنها وتجده، غير أن مجموعات الأهالي الفارين منعوها، لأن عودتها مع طفلتها التي تحملها بين ذراعيها تعني هلاكهما معاً، وحثوها على المتابعة معهم، فجعلت تركض وتنادي أحمد، أحمد … أحمد، حتى اختفى صوتها.
لم تأوِ مريم إلى المخيم مع أطفالها الثلاثة، فلقد منحها أحد المحسنين الأتراك بيتاً في القرية، وعرفها بعضهم إلى بعض فوجدوا لها عملاً في أحد المطاعم، فأخذت تعمل وتكسب قوت يومها وأطفالها : الصفيرة (سمر) ذات السنوات الثلاث، و(جميل) ست سنوات، وعبد الهادي ذو العشر سنوات، يجتمعون حول المائدة المتواضعة في آخر النهار، يرفعون أيديهم للسماء، يبتهلون إلى الله أن يعيد إليهم أحمد، أخاهم ذا الأربعة عشر ربيعاً كما أعاد الله النطق لأمهم، ولقد استجاب الرب لدعائهم، فعاد أحمد بعد حوالي ثمانية شهور، كان قد سقط فعلاً في حفرة عميقة لم تكن مرئية في تلك الليلة الظلماء، وقد أعاقته ساقه عن اللحاق بأمه وأهل القرية، ولم يسمع أحد نداءه، فبات في الحفرة، وفي فجر اليوم التالي عثر عليه أحد المهرّبين، فأخذه على أمل أن يقايض به بالمال، ولمّا يأس من أن يحصل على المال من ذوي هذا الطفل الفقير أطلقه.
تدرجت مريم في الأعمال، طلبتها إحدى العائلات المرموقة لرعاية سيدة مسنّة لديهم، عملت في المواسم في معمل (الفليفلة)، أدخلت أولادها المدارس، وفي الأيام التي يُقام فيها (البازار) عمل أولادها كحمالين، لم تهدأ، عملت هي وأولادها كخلية نحل، تحسنت أوضاعها كثيراً، غير أن أحمد لم يتعافَ من نوبات الغضب الهستيري التي كانت تعاوده بين الحين والآخر، كوابيس من تلك الأيام حين فقد أمه وأخوته، وحين أسَرَه ذلك المهرب فحبسه في مكان لا يصلح للدواب، كانت نوبات الغضب هذه تهز أركان البيت، تثير الرعب في الأطفال وأمهم، ومريم لا تعرف لهذه الحالة دواءاً سوى أن تجلس في زاوية الغرفة تضم أولادها بخوف وتبكي!
تعلم أحمد اللغة التركية وأتقنها وعمل في محل لبيع وصيانة أجهزة الهاتف المحمول، انطلق في مسيرته بنجاح، تباعدت نوبات الغضب شيئاً فشيئاً، غير أنه في ذلك المساء، عندما دخلت فتاة إلى المحل لإصلاح جهازها، طاشت عيناه، فترك عمله ولحق بالفتاة، ورآه أحد أقارب البنت، فأثار رفاقه والتموا حوله وأوسعوه ضرباً ولكماً، وعاد أحمد إلى أمه مدمى بنوبة غضب من نوع جديد.
عرفت مريم ما حدث، إنها قرية صغيرة هذه التي يعيشون فيها، وكل ما يحدث فيها ينتشر بسرعة البرق، مع مبالغات تسر خاطر الراوي.
أجلست ابنها بقربها وجعلت تمسد على شعره وتقرأ ما تحفظ من آيات القرآن، حتى إذا هدأ الصبي، قالت له: “اعمل بجد وأنا أعدك أن أدخر لك كل ما تجنيه من نقود، وسوف أخطب لك هذه الفتاة بعد سنة”.
اليوم : مريم في عرس ابنها، تلتفت حولها، ترمق ابنها العريس ذي الواحد والعشرين عاماً بنظرات ملهوفة، مليئة بالفرح الممزوج بالدمع، دمع ينبع من هناك، من سنوات طويلة عامرة بالعذاب والأمل.
خاص “شبكة المرأة السورية”
One Response
مَن منا لا يشبه مريم، كل السوريين الهاربين مريم.. سلمت يداك و بوركت يا خولة.