عبير محمد
لم أكن أتخيل في يوم من اﻷيام أني سأعيش لحظات أتعرض فيها لمواجهة الموت بشكل صريح ومباشر كما حدث معنا في أحد أيام عام 2013.
كنا نعيش في منبج بحكم عمل زوجي في شركة اﻹسمنت الفرنسية (لافارج) في- الجلبية- قرب عين عيسى بالرقة، عندما دخلت أحرار الشام إليها في الشهر السابع من سنة 2012. وفي العام التالي، 2013، قررنا الذهاب بسيارتنا في إجازة إلى حيث يقيم أهلي في مدينة السلمية. لم نكن نعلم أنها ستكون زيارة تحمل ذكرى مؤلمة. كان ابني عمر في سنته الثانية، وبعد انتهاء إجازتنا في أجواء الربيع الجميلة، عدنا أدراجنا بعد أن جهزت لي أمي زوادة للطريق، عبارة عن ربطتي خبز وصندوق خضار وفاكهة، أمي التي لا تترك شيئاً إلا وتذكرنا فيه عندما نذهب في طريق السفر. انطلقنا بعد أن استطعنا تأمين البنزين للسيارة بصعوبة، حيث كانت أزمة البنزين والكهرباء والمازوت في أوجها، ولازالت. كانت وجهتنا مدينة منبج عن طريق حلب، وقتها كان طريق خان شيخون ومعرة النعمان لقرى ادلب ما يزال شبه مفتوح وسالك.
سارت السيارة في طرقات فرعية بين خان شيخون والمعرة. وبعد فترة اقترحت على زوجي أن يوقف السيارة كي أرجع إلى الخلف لكي أكون بجانب عمر. لكن حالما توقفنا، خرجت علينا سيارة وقطعت طريقنا، ونزل منها مسلحون، بينهم شاب ملامح وجهه توحي بشراسة مرعبة. أخذ يصرخ في وجهنا مشيراً ببندقيته: “انزلوا من السيارة”. ثم اقترب مني مسلح آخر يرتدي ثوب وملثم، بحيث لا يظهر من وجهه سوى عينيه، وهو يؤشر لي أيضاً بالبندقية أن(اخرجي من السيارة).
بدأت أطرافي ترتجف. لم أعلم ماذا أفعل، بدأت أرجوهم أن لا يؤذونا، وكان هناك شاب مدني من العامة يسير بجانب منزله فصرخت أستنجد به: “أرجوك أنقذنا”، لكنه أطرق وأكمل طريقه ولم يكترث. أخذ زوجي يكلمهم ليفهم منهم ما الذي يريدونه، لكن دون فائدة. ثم أتت سيارة مدنية ونزل منها أشخاص حاولوا الحديث معهم بأن يدعونا وشأننا. عندها بدأ الشاب الشرس يهاجمنا بإطلاق النار عند أقدامنا، ليجبرنا على الذهاب معهم. صعدنا السيارة معهم حيث اقتادونا إلى مكان مهجور وبعيد عن اﻷماكن المأهولة. كان يعيش في ذلك المنزل عائلة، أمرأة متوسطة العمر مع أولادها وزوجها، الذين يبدو أنهم من بدو المنطقة. أخذوني وابني عمر إلى غرفة المرأة وبقي زوجي في الخارج. بدأت المرأة تحادثني أحياناً وتسألني أحياناً. ثم تطرقت إلى الجماعة التي اختطفتنا: “إنهم مرعبون، قد يخضعونكم لمحاكمة وقد يذبحونكم”.
لم أعد أشعر بكلامها، وبينما استمرت بحديثها شردت في عوالم أخرى وبدأت أتحضر لما هو أسوأ. تساءلت بيني وبين نفسي: “إذا قتلونا ماذا سيفعلون بعمر ابني؟ هل سيقتلونه أيضاً؟ ياربي ماذنبه؟”. خرجت للتحدث معهم وهم يصرخون: “ادخلي للداخل”. وأنا أستجديهم: “والله نحنا مالنا علاقة بشي”، ثم فجأة دخل الشاب الشرس وبدأ يسألني: “إذا كنت صادقة في إجاباتك لن نؤذيكم”. وأخذ يسألني: “ماذا يعمل زوجك؟ هل هو ضابط؟ من أين أتيتم؟”
أقسمت له كي يصدق أن زوجي ليس بضابط، وهو موظف في شركة خاصة، وأنا من السلمية وزوجي من حلب. فقال: “وأخوتك ألا يعملون في اﻷمن؟”، أجبت: “أخوتي موظفون ولا علاقة لهم باﻷمن”.
خرج ليكمل التحقيق مع زوجي، فخرجت وراءه. عندها حصلت مشادة بين الشباب الموجودين، أحدهم صرخ وقال للشاب الشرس: “يا أخي نحنا مو مهمتنا نختطف مدنيين”، وهو يجيبه: “هؤلاء ليسوا مدنيين، هذا ضابط”، ثم أتى شاب صغير في السن وقسمات وجهه فيها شيء من السماحة. عندها دخل شيء من اﻹطمئنان لقلبي، حمل عمورة وقبله وقال لي: “الله يخليلك ياه”.
أخيراً، وبعد أخذ ورد ومناوشات ومحادثات وتحريات، حيث قاموا بتفتيش السيارة والكومبيوتر المحمول، توصلوا إلى قرار إخلاء سبيلنا. وقبل أن يتركونا قال الشاب الشرس لزوجي: “زوجتك كان ممكن أن نبادلها بأربعين شخص من طرفنا”.
وخلالها تبين لي بأن العائلة التي كانت معهم ليست محتجزة، ﻷن الرجل قال لزوجته دعينا: “نذهب من هنا ألا ترين الطيران يملأ اﻷجواء مالذي يجبرنا على البقاء معهم؟”.
صعدنا إلى سيارتنا ونحن نتنفس الصعداء. أخيراً سنعيش … لن نموت، لن يحتجزونا في هذا البيت المهجور، حيث يمكن أن نعيش ﻷجل غير مسمى، ﻷنام على أشياء قذرة وآكل بأوعية أقذر. أخيراً نجونا.
اتجهت إلى السيارة ﻷعطي المأكولات التي أعطتنا إياها والدتي ﻷطفال هذه العائلة، لكن الشاب الشرس صرخ بوجهي: ( أعيديها، لن نأخذ منكم شيئاً”، ثم رافقونا إلى آخر الطريق لنذهب إلى الطريق الرئيسي المتجه إلى حلب. وقبل أن يتركونا سألني الشاب الشرس: “أذيناكم شي؟”، فأجبته: “الله بيشهد”، بينما كنت أقول في سري: “لم تؤذونا جسدياً، لكن ذبحتونا نفسياً”.
سرنا في الطريق وكأننا ولدنا من جديد. وخلالها لم يفارقني تساؤل مفاده: “كيف كانت حال من اختُطف وعُذب وذُبح من أبناء بلدي الأبرياء؟”.
لاحقاً اكتشفنا أن من اختطفونا هم من تنظيم النصرة، اتجهنا إلى منبج التي يسيطر عليها أحرار الشام، لتبدأ تجربتنا التالية مع داعش.
خاص “شبكة المرأة السورية”