وردة الياسين
الأرض مختلفة، ولكن السماء لها الزرقة والتكوين نفسهما، مع فارق أن الطائرة التي تحلق في سمائها الآن، والتي تنظر إليها “نجاة” بكل إمعان وراحة، لن تلقي صاروخاً أو برميلاً أو تزهق روحاً ما. وتدرك “نجاة” أن إقامتها في تركيا، تعني مواجهتها لتحديات جديدة بمهارات مختلفة، ولكنها دخلت تركيا تواً، لذلك فهي ليست بصدد سبر ما بقي لديها من طاقات وقدرات تلائم الوضع الجديد، فجلّ ما تريده هو إراحة عقلها وجسدها المنهكين من النزوح والتهجير والحرب.
رجل ضخم ممحيُّ المعالم، محاط بعدد هائل من الجنود، يمسك بيد “نجاة” ويجرّها عنوة نحوه، وهي عبثاً تحاول الفكاك والفرار، ولا تفلت منه إلا عندما تفتح عيناها. رافق هذا الحلم “نجاة” منذ اليوم الأول لوصولها إلى إدلب، ولمدة ثلاث ليال متتالية. و”نجاة” فضلت القدوم إلى الشمال السوري، مع قوافل التهجير، على البقاء في درعا والقبول بمصالحات وتسويات فرضتها وأدارتها القوات الروسية. وتعلّل “نجاة” أسباب ملاحقة هذه الأحلام لها بأنه قد يرجع إلى حالة الخوف والتوتر النفسي الحاد الذي عايشته، أثناء الحملة الأسدية- الروسية الشرسة على درعا. تلك الحملة، التي كانت أسراب من طائرات مختلفة النوعية تتمكن خلالها، وفي أقل من يوم واحد، من مسح قرية بأكملها عن وجه الأرض، وتهجير وتشريد آلاف من الأهالي إلى المخيمات والسهول، ليعيشوا أوضاعاً لا إنسانية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، وضمن تفاصيل حياتية بسيطة، كانت “نجاة” تتنظر مدة نصف ساعة أو أكثر، لتحصل على دور لها لتدخل الحمام، الذي أقامته منظمة ما في مخيم يضم مئات النازحين الفارين من القصف الهمجي. وهي كانت تنام مع ما يزيد عن عشرة أشخاص في خيمة تتسع فقط لأربعة أفراد، واضعة تحت رأسها ثوباً أو بقايا قطعة قماش أو حذائها. ولكن كل هذا يبدو هيناً بالنسبة لـ “نجاة” أمام طائرة “الهيلوكوبتر”، طائرة البراميل، العمياء، التي تسجّل علامة مرتفعة في قتل المدنيين.
من عشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة، هي المدة الزمنية التي تستغرقها الهيلوكوبتر لتلقي سمومها، وستهاجمك خلال هذه الدقائق عشرات التساؤلات والاحتمالات، عن المكان الذي ستسقط فيه البراميل، وعن احتمالية أن تكون أنت من سيشيع جثمانه اليوم، وقد تسعى إلى الاختباء في قبو أو في منزل مؤلف من طبقات، هذا إن استطعت، وإن لم تستطع، ستحاول جاهداً أن تخلع عنك إنسانيتك، وحقك في الموت بطريقة أقل إيلاماً، وتسلم بأن الحياة التي تحياها لا تستحق أن تُعاش!
في مدينة سراقب، حيث حلّت “نجاة” ضيقة عند “أبو إياد” وهو صديق سابق لزوجها المعتقل منذ ما يقارب الخمس سنوات. لم يكن حديثها “عن محارق القصف” أو ما يكون عليه نزوح العراء، سيضيف شيئاً جديداً لدى أم إياد وأخواتها وجارتها عندما كن يتسامرن معها مساءً، فسراقب وأهلها يحفظون وعن ظهر قلب كل أنواع الصواريخ والقنابل والطائرات والنزوح. ولكن حديث نجاة عن سبع ساعات توازي من وجهة نظرها سبع سنوات كاملة من الثورة في شدتها ووطأتها، هو ما كانت تسهب فيه.
قافلة تضم حوالي (95) حافلة، تقل ما يقارب (4000) شخص من نساء وأطفال ورجال، ويحمل كل ذكر بالغ فيها بندقية ومسدس وثلاثة مخازن للرصاص. في طريقها من الجنوب إلى الشمال وعند مفرق حمص- طرطوس، توقفها وتحاصرها أعداد كبيرة من مليشيات شيعية، مسلحة بالبنادق والقواذف والمضادات والسيارات المصفحة. وهنا تبحث “نجاة” عن مفردة أكبر من الهلع والفزع لتصف بها شعورها وشعور من معها، من هول ما يحدث أو قد يحدث، خاصة عندما تسمع “نجاة” صوت “خرطشة الروسيات” لجعلها في حالة أهبة واستعداد إذا ما تمت مهاجمة القافلة نارياً من قبل المليشيات.
يفرج عن القافلة بعد سبع ساعات، مارس فيها المُحَاصَرون والمُحَاصِرون تمرين ضبط النفس. لتنطلق بعدها القافلة في طريقها المخصص، ولتبدأ “نجاة” وأفراد حافلتها بتنفس الصعداء، مهنئين أنفسهم بالسلامة، ويحاول أحدهم أن يلطف ما حصل قائلاً: “عادي … مغامرة سنحكيها لأحفادنا لاحقاً”. كلا… الأمر ليس بالعادي وليس بالطبيعي، فطلقة واحدة من أي طرف كان، كانت ستكون كفيلة بإحداث مجزرة بشرية، سيظل التاريخ يستنكرها طويلاً.
تغادر “نجاة” إدلب معقل المعارضة الأخير إلى تركيا بعد عشرين يوماً، متمنية ألّا تتكرر فيها سيناريوهات حلب والغوطة ودرعا، وآملة بأن تجد في تركيا حياة آمنة وأكثر انسانية. وقبل أن تجتاز “نجاة” الباب الحديدي الضخم الذي سيفصلها تماماً عن سوريا، تضحك في سرّها طويلاً، وهي تتذكر بأن السيد “ديمستورا” كان يقول بأن سيناريو الغوطة على وشك أن يتكرر في درعا، وأنه يأسف لأن ذلك قد يعرقل عمل لجنته الدستورية. ولكن هل كان يعلم السيد “ديمستورا” بأن نجاة ومعها نساء أخريات كنَّ يتجهزنَ، وقبل اقتحام درعا، لإطلاق حملة توعوية وتثقيفية ستستفيد منها التجمعات النسائية في درعا، وسيتم تعريف النساء من خلالها بمفهوم الدستور وضرورة مشاركتهن في الحياة السياسية؟
خاص “شبكة المرأة السورية”