منتهى شريف
زغردت أم ربيع، ونثرت الزهورَ على العروسِ التي وقفت للتو بباب الصالة، ثم دخلت سلمى كأميرة بفستانها الأبيض، وإكليلها ذي الطرحة الطويلة التي تجرها وراءها لأمتار، سارت وحيدة على البساط الأحمر الطويل باتجاه كرسي فخم، يتربع في أعلى مكان داخل الصالة التي كانت تضج بزغاريد وغناء الصبايا اللواتي تبرَّجن ولبسنَ أجمل ما عندهن لهذه المناسبة. وبما أن عدد الشبان في الصالة كان قليلاً جداً مقارنة بأعدادهن، فقد تركن الحرية للنظرات والأيدي أن تلتقي وتتشابك وتشبك مصائد الحب الجميلة.
أطلق الجميع العنان للمشاعر المسجونة داخل صدورهم، فشكلت أقدامهم وهي تضرب الأرض بإيقاع واحد لوحة فرح نادرة.
جلست العروس وحيدة على كرسيها البعيد وألبست وجهها ابتسامة خلفها حزن خفي. دارت عيناها في الصالة تبحث عن حبيبها الذي وعدها أن يكون بجانبها في تلك اللحظة. اقتربت سناء وبيدها الموبايل وهي تحدث أخاها بحماس: “شوف يا ربيع، هذه عروستك سلمى، شوف ما أحلاها”! لكن ما إن التقطت عينا سلمى صورته وقبل أن تسمع صوته، أشاحت بنظرها عنه، هاربة من لحظة انفجار ببكاء لن يكون من السهل أن يتوقف.
منذ خطبها قبل سبع سنوات وهي تحلم أن يدخلا معاً تلك الصالة، خططا لذلك وحلما معاً أنها ستكون لحظات خالدة في ذاكرتيهما. كانا قد خططا لهذه الليلة بكل تفاصيلها: الثوب والمدعوون والموسيقا التي سيرقصان على أنغامها. الموسيقا ذاتها التي أصابتها بالذعر وهي تسمعها الآن والتي تدعوها إلى رقصة العروس. مشت بجسد مذعور وروح منهزمة نحو منتصف القاعة، حيث التفّ الجميع حولها يصفقون ويزغردون، ثم بدأت تتمايل كالفراشة. كانت أنفاسها تصعد وتهبط في صدرها كأنها تركب سفينة تكاد تغرق، وتتشوش رؤيتها وسط الدموع فيبدو كل من حولها كالأشباح، تستطيل أشكالهم وتتحول عيونهم إلى شوك يخِزها في كل أنحاء جسدها، وصوت تصفيق أكفهم يصفع قلبها. أخذت تحرك يدها في كل الاتجاهات بحثاً عن يد ربيع لتسندها، لكنها لم تجدها. ظلت تدور وتدور كالفراشة المحترقة حتى وقعت أرضاً.
فجأة استيقظت سلمى على صوت والدتها، قفزت مذعورة: “الحمد الله، الحمد لله … كان حلماً”!
ضمتها أمها لتهدئ من روعها مؤكدة أنه كابوس: “اليوم رح يجوا أهل ربيع لنحكي عن العرس”، قالت الأم.
كان كل شيء جاهزاً لحفلة العرس تلك الذي سيقام بعد أسبوعين، لكن سلمى فاجأت الجميع عندما قالت لهم وبدون أي مقدمات: “أنا ما عاد بدي”!
جن جنون أهلها فكيف تجرؤ أن تنسف مراسم حفل العرس المنتظر! كيف لها أن تحل ذلك الرباط المتين بين العائلتين العريقتين؟
أتاها صوت ربيع راجياً على الهاتف: “سلمى أنا بعرف إنك بتحبيني”، أكدت له بدموعها: “أكيد بس ما بدي أعمل عرس بدونك”. حاولوا إقناعها أن أغلب الأعراس في هذه الأيام بلا عريس، وأنه بظروف الحرب هناك استثناءات، مؤكدين: “أنتم جيل الأزمة، وهذا قدركم”. لكن سلمى أجابت الجميع بشكل حاسم: “أنا ما بعمل عرس بلا عريس”!
قبل ثلاث سنوات، ركب ربيع البحر مع الكثير من الشبان هرباً من الحرب وشظف العيش وقلة الحيلة، وبعد رحلة طويلة شاقة وصل بلاداً بعيدة وبدأ ينمّي في نفسه وفي نفس سلمى أملاً في لمّ شملهما، لكن مخاوفها كانت تكبر كل يوم عندما ترى كثيرات غيرها ينكسرن يومياً على حافة انتظارهن اليائس. تعلم أن “ربيع” يحبها، لكنه لا يستطيع العودة، وهي ربما لن تستطيع الرحيل. سيبقيان هكذا كنجمين مثبتين كل في فراغه.
العاشق في قلب ربيع ما عاد يطيق الانتظار، فقرر العودة على جناح السرعة متجاهلاً كل التنبيهات بعد أن أقنع عائلته أنه سيكون بخير، وهم قبلوا أن يستجيبوا لنصيحة أحد الأقرباء المتنفذين: “مبلغ مالي مقابل إزالة اسم ربيع من قائمة المطلوبين على الحدود”.
والده قرر رهن الكرم، وتقديم ثمنه لهم. وحدها والدته ذُعرت ولوّحت بإصبعها في وجه سلمى: “إذا صار لربيع شي، بحياتي ما بسامحك”، لكن سلمى لم تستطع ان تخبئ سعادتها، فحبيبها سيغامر من أجلها، سيعبر لأجل عينيها البحار والحدود.
نامت تلك الليلة قريرة العين، وعند الصباح كان الخبر مدوياً في القرية: “اختفاء ربيع عند أول حاجز بعد دخوله البلاد”.
الخبر انتشر سريعاً، وكان صوت أم ربيع وهي تصيح: “الله لا يوفقك يا سلمى”، يتردد صداه في القرية وقد أصاب من سلمى وعائلتها مقتلاً.
اجتمعت العائلة لحل المشكلة تحمس الجميع وتفجر غضبهم، وما هي إلا ساعات حتى وجدوا الحل الحاسم فهجموا بأسلحتهم على عائلة العروس، وكانت معركة بشعة أصاب الطرفان بعضهما بعضاً بكل أنواع العنف الجسدي واللفظي. وحدها سلمى بقيت في غرفتها صامتة، غير مصدقة، ترتجف أمام فستان عرسها الأبيض، تتخيل حبيبها ربيع وقد سِيق إلى الموت مع الآلاف كما تساق القطعان للذبح.
نامت القرية يومها في قلق على ربيع الذي لم يُعرف عنه أي خبر، وفي قهر على الأرض التي ذهبت مع ثمنها للغربان السود!
بعد أيام حيث كان موعد عرس سلمى وربيع المؤجل، دُهش أهل سلمى عند رؤية أم ربيع صباحاً تطرق بابهم. شوقها وخوفها على ولدها جعلها تأتي لرؤية سلمى لعلها تضمها فتشمّ رائحة ولدها، لكن صراخها وصراخ والدة سلمى وصل للسماء عندما دخلتا غرفة سلمى فوجدتاها متدلية من السقف، بعد أن قصت فستان عرسها الأبيض، وحولته إلى حبل طويل، لفته بإتقان حول رقبتها وبدأت وحدها مراسم الاحتفال.