Search
Close this search box.

نساء سوريات يحتضن أطفالاً شردتهم الحرب

نساء سوريات يحتضن أطفالاً شردتهم الحرب

سونيا العلي

لم تستطع الطفلة علا أن تخفي دموعها وهي تتحدث عن مقتل والديها اللذين خطفت حياتهما غارة حربية على سوق مدينة معرة النعمان لتظل مع أخيها خالد في عهدة خالتهما التي تكفلت برعايتها والعناية بهما وحمايتهما من تبعات اليتم والتشرد .

قصة علا هي واحدة من قصص مئات الأطفال الذين فقدوا أهلهم في الحرب ليبحثوا عمن يساعدهم، في الوقت الذي أخذت الكثير من العائلات السورية على عاتقها احتضان أطفال تسببت الحرب بتفرقتهم عن أهلهم، لمساعدتهم على تحمل ظروف الحياة ومواساة كربهم وتأمين احتياجاتهم حتى يبلغوا أشدهم ويصبح بإمكانهم الاعتماد على أنفسهم .

علا التي تبلغ من العمر عشر سنوات تتحدث لسيدة سوريا عن معاناتها ودموعها تسبق كلماتها: “فقدنا أغلى ما نملك، وهم الأهل الذين كانوا يفنون حياتهم لإسعادنا، فقبل حوالي عامين كان والداي يتسوقان لتأمين متطلبات العيد وحاجياته عندما تم قصف السوق الشعبي في المدينة مما تسبب بموتهما مع آخرين”.

“اسودت الدنيا في عيوني أنا وأخي الصغير وضاقت بنا الحال”، بحسب ماتؤكده علا لسيدة سوريا، لكن خالتها قررت أن تضمهما إلى عائلتها ليظلا تحت رعايتها، الأمر الذي ساعد الطفلين في الحصول على الحنان الأسري والاستقرار النفسي والاجتماعي.

أم عامر (38 عاماً) هي خالة الطفلين تتحدث لسيدة سوريا عن سبب احتضانها للطفلين قائلة:”كانت علا وأخوها خالد يعيشان خوفاً ورعباً، جعلهما بحاجة ماسة للحماية والرعاية، فهما أولاً أبناء حرب، لم يتسن لهما أن يعيشا طفولتهما كما يجب، لتكتمل المعاناة بفقد الأبوين، لذلك أردت أن أحميهما من تبعات اليتم، وأؤمن لهما ما يحتاجان إليه من أمان واستقرار”، مؤكدة بأنها لن تتخلى عنهما مهما كانت الظروف، فهما بمثابة ابنيها، ولن تميز بينهما وبين أبنائها في المعاملة أبداً.

كذلك الطفل مرهف الخديجة (11 عاماً) من معرة النعمان وجد من يساعده على تخطي واقعه المؤلم بعد فقدان والديه، وعن معاناته يتحدث قائلاً: ”فقدت والدي منذ ٣ سنوات في الحرب، كما فقدت أمي أيضاً التي أجبرت على الزواج من رجل آخر والسفر معه إلى تركيا لأظل وحيداً في عهدة جدتي المريضة والكبيرة في السن، حيث سكنت معها في منزل يفتقد أدنى مقومات العيش وهو عبارة عن قبو  صغير داخل منزل متهدم بشكل جزئي من القصف”، موضحاً بأنه كان يعمل طوال اليوم في جمع المخلفات البلاستيكية والمعدنية من الشوارع ومكبات القمامة لبيعها والانتفاع بثمنها، وكانت إحدى قريبات والده وتدعى أم سعيد تتردد عليهما لتعطيهما بعض الطعام والمال من وقت لآخر.

يؤكد مرهف بحزن وأسى بأن جدته لم تبق معه طويلاً، حيث فارقت الحياة بعد صراعها مع المرض، ليفقد بموتها سنده وطمأنينته من جديد، مضيفاً: “كاد اليأس يستبد بي لولا أم سعيد التي طلبت مني الذهاب للعيش مع أسرتها في بلدة تلمنس، وهي تعاملني أفضل معاملة، حيث تحاول أن توفر لي الجو الأسري وتسعى جاهدة ألا تشعرني بأي نقص، لتعوضني عن الرعاية والحنان اللذين فقدتهما بفقد الأهل واليد التي طالما مسحت الدموع من عيني”.

ويبين مرهف بأنه تمكن من العودة إلى دراسته بفضل أسرته الجديدة التي شجعته على ذلك وقدمت له جميع التسهيلات الممكنة.

تتحدث المرشدة النفسية رنا كرامي (35 عاماً) من معرة النعمان عن أهمية كفالة اليتيم بقولها:”خلفت الحرب السورية عدداً كبيراً من الأيتام الذين يشكون العوز والفقر والمحرومين من الرعاية والعناية، وهما من أبسط الحقوق التي يحتاجها كل طفل، لذلك يعاني اليتيم بعد فقد أحد والديه أو كليهما الحرمان المطلق، فهو محروم من إشباع حاجاته المادية والعاطفية والنفسية، لذلك تنتابه الهواجس والمخاوف وعدم الإحساس بالأمن والأمان، ويخيم عليه القلق والاضطراب، وغالباً ما تلقي هذه الحالة بظلال كثيفة من التأثيرات النفسية على كيان الطفل وبناء شخصيته إن غابت عنه الرعاية الأسرية التي تعوضه عن يتمه”. وتضيف: ”لذلك  تساعد استضافة طفل يتيم داخل الأسرة على نشأته بين أحضان أسرة طبيعية تعوضه عما فقده من حنان بفقدان والديه، وتساعد على تمتعه بطفولة طبيعية، مع توفر الخدمات الطبية والتغذية الجيدة لينمو نمواً متوازناً مما يحقق له التكيف الاجتماعي ويعمل على إخراجه من أزماته النفسية”.

الجدة أم عبد الله (52 عاماً) من مدينة إدلب أيضاً حاولت أن تنهي معاناة حفيدتها اليتيمة، حيث بحثت كثيراً عنها في تركيا حتى وجدت لها سبيلاً، وعن ذلك تقول :”بعد غارة حربية على منزل ابنتي في المدينة، تم استخراج عائلة ابنتي كاملة من تحت الأنقاض وإسعاف أفرادها إلى تركيا، لأعلم فيما بعد بوفاة ابنتي مع زوجها، دون أن تردني أية أخبار عن وضع حفيدتي الصغيرة خديجة التي تبلغ من العمر أربع سنوات فقط، فقررت الذهاب إلى تركيا بحثاً عنها، وبعد رحلة بحث طويلة ومضنية وجدتها في إحدى دور الأيتام في تركيا، فأتيت بها لأحميها وأعتني بها، حيث لم يتبق لها سواي في هذه الحياة”.

كما أقدمت سيدات سوريات على احتضان وكفالة أطفال أيتام فقدوا آباءهم وأمهاتهم دون أن يكون لهن أية صلة قرابة بهم، وذلك بحسب ما يمليه ضميرهن الإنساني، ومنهم السيدة فاطمة السليم (٣٩عاماً)، التي اصطحبت معها ابن جارتها المدعو محمد إلى ألمانيا ليعمل فيما بعد على لم شمل أسرته، وعن ذلك تتحدث قائلة: “اصطحاب طفل إلى ألمانيا وبطريقة غير شرعية تعتبر مسؤولية كبيرة، ولكنني فعلت ذلك إنقاذاً لأسرة كاملة من الأوضاع المعيشية المأساوية التي كانت تعاني منها”.

أما والدة محمد (٣٥عاماً) من مدينة التمانعة بريف إدلب فتعبر عن معاناتها بقولها :”فقدت زوجي في الحرب، كما تهدم المنزل الوحيد الذي كان يأويني مع أولادي الخمسة، لنظل دون سكن ومعيل، فنزحت إلى أحد المخيمات في أطمة لنعيش أوضاعاً مأساوية في خيمة صغيرة لا تحمينا من حر الصيف أو برد الشتاء، ننتظر بفارغ الصبر ما يقدم إلينا من مساعدات إغاثية لا تسمن ولا تغني من جوع”.

تبين أم محمد بأنها قررت أن تضع حداً لمعاناة أسرتها والواقع المؤلم الذي ضاقت به ذرعاً، وذلك من خلال إرسال ولدها الأكبر محمد البالغ من العمر١٢ عاماً إلى ألمانيا مع عائلة جارتها في المخيم التي كانت تستعد للسفر.

وتضيف أم محمد: “لم تتردد جارتي في الموافقة على اصطحاب ولدي محمد مع أسرتها بسبب ما تعرفه عن أوضاعنا الصعبة، فقمت ببيع ما تبقى لدي من مصاغ ذهبي كنت أدخره لأصعب الأوقات، ليتمكن ولدي من السفر أخيراً، وهو يحاول اليوم أن يضم شمل العائلة”.

كما لم تثن الظروف الصعبة عبيدة (29 عاماً) من معرة النعمان عن قيامها باحتضان طفل رضيع فقد والديه، وعن ذلك تتحدث لسيدة سوريا قائلة: “أعمل في جمعية إغاثية، وعند تهجير أهالي الغوطة الشرقية كنت مع فريق الجمعية في منطقة قلعة المضيق لاستقبالهم ومساعدتهم”.

توضح عبيدة بأن إحدى العائلات المهجرة قامت بتسليمهم طفلاً رضيعاً فقد والديه وبقي وحده، كان الطفل يبكي وثيابه الرثة تنبئ بواقعه الحزين، فشعرت تجاهه بالعطف والحنان، وقررت أن تأخذه إلى منزلها للعناية به وإحاطته بكل اهتمام، وعن ذلك تضيف:”ماذنب هؤلاء الأطفال الذين فتحوا أعينهم على الحياة ليجدوا الحرب التي جعلتهم وقوداً لنارها المستعرة، يتماً وقتلاً وتشريداً”.

كما أقدمت بعض العائلات إلى تبني أطفال سوريين تسببت الحرب بفقد آبائهم وأمهاتهم .

عبير العمر (30 عاماً) متزوجة منذ خمس سنوات ولم ترزق بمولود، لذلك أرادت أن تتبنى طفلاً يتيماً من إحدى دور الأيتام الموجودة في إدلب، وعن ذلك تقول:”خلفت الحرب الكثير من الأطفال الأيتام الذين يواجهون مصيرهم وحدهم في دروب الحياة، وينتظرون مستقبلهم المجهول بحزن وانكسار، لذلك  فهم بأمس الحاجة لقلب يعطف عليهم، ويد حانية تساعدهم وتأخذ بيدهم”.

تشير عبير بأنها قامت بتبني الطفل بهدف توفير حياة كريمة له وفرص تعليم تحمي مستقبله، على الرغم من اصطدامها بعائق عدم تقبل أهل زوجها لهذه الفكرة.

الكثير من الأطفال الأيتام تمكنوا من تجاوز اليتم وقسوة الطفولة المحرومة من الحنان عندما وجدوا اليد التي تمسك بهم، وتساعدهم على تجاوز محنتهم والوصول بهم إلى بر السلوك السليم والعمل المنتج، ومنهم الطفلة ريم الكردي (15 عاماً) التي تفوقت في امتحان شهادة التعليم الأساسي بمجموع ممتاز وترسم لمستقبل مشرق في دراستها رغم ظروفها الصعبة، وعن ذلك تقول: “أقيم مع أسرة عمي في مدينة معرة النعمان بعد موت والداي، ولكنني لن أسمح لهذه الظروف أن تمنعني عن تحقيق أحلامي، فقد كانت أمي تتمنى أن أصبح طبيبة، وسأسعى لتحقيق هذا الحلم رغم كل شيء”.

وعن معاملة عمها وزوجته تقول:”عمي رجل فقير، ولديه ثلاثة أبناء صغار، لأكون مع إخوتي الثلاثة عبئاً إضافياً، لكنه يحاول أن يؤمن لي ولأخوتي كل متطلباتنا حتى لا يشعرنا بالنقص والحرمان، وكذلك زوجة عمي تعاملنا معاملة حسنة وتقدم لنا التوجيه والرعاية”.

والجدير بالذكر أن الأوضاع المتردية في سوريا مع مقتل عشرات الآلاف من المدنيين حولت عدداً كبيراً من الأطفال إلى أيتام، حيث تكشف الأرقام أن نسبة تصل إلى ٢٠ بالمئة من أطفال سوريا صاروا أيتاماً جراء فقدان أحد والديهم أو كليهما في الحرب الدائرة، وهم موزعون بين الداخل السوري وبلدان اللجوء.

يمثل الوالدان بالنسبة لكل طفل حياته ونموذجه الأعلى والمصدر الأول لتأمين حاجاته النفسية والاجتماعية، وغيابهما بلاشك يؤدي إلى تصدع حياته ونموه السوي، لكن ظروف الحرب السورية لم تتمكن من الاستبداد ببعض أيتام سوريا ومنعهم من تحقيق أحلامهم بعد أن فقدوا أهلهم في الحرب وتعرضوا لمعاناة غير مسبوقة يلاطمون خلالها موجات عاتية تهدد لربما بقاءهم، وذلك بفضل تكافل السوريين وإنسانيتهم وحرصهم على مساعدة بعضهم حتى في أحلك الظروف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »