منتهى شريف
المكانُ يكتظُّ بالنَّاسِ، والأنفاسُ تزفرُ هاربةً من ضجيجِ الخوفِ، وحدها العيونُ الباحثةُ عن الأمانِ تتشابهُ بنظراتِها, معَ اختلافِ اللهفة وطرقِ البحثِ عن كيفية الاستمرارِ في هذهِ الحياة.
كانت أمُّ حبيب هناك مع ابنتها, عندما فاجأتها صورة, كان قد وضعها أحد أبنائها على حالته في “الوتس آب”. قامت بأكثرِ من اتصالٍ لتطمئن,َ ثم َّ خرجت مسرعةً, بعد أن رنَّ هاتفها الجوَّال وأشارت الممرضةُ لها بأن تخفضَ صوتها, فالغرفةُ مليئةٌ بنساءٍ متعبات خذلتهن أجسادهنَ وبتنَ رهينات المرض.
لم تنتبه لخيط ِ”السيروم” المربوطِ بيدِ ابنتها سمية وكادت تتعثرُ به, ولم تكترث لصوتِ الطبيبِ الذي اصطدمت بكتفهِ, فالذي سمعته ُللتو جعلها تنتفضُ مذعورة.
شاحَت عينا سمية الذابلتينِ وراءها, فكمامةُ الأوكسجين التي أَحكمت إغلاقَ فمها, منعتها من سؤال أمها عما حدث, والدواء المربوط بيدها, منعها من اللحاق بها. لطالما اعتبرت سمية نفسها وأمَّها من المحظوظات بعد أن استطاعتا الهرب من الغوطة عند بداية الحرب تاركتين هناك أخوتها الذكور وبيتهما والكثير من الأقارب والأصدقاء والذكريات. لم تفقد إيمانها بأنها محظوظة حتى عندما أكدَّ لها الطبيبُ أنه لابد من استئصال كليتها التي أهملَت علاجها أثناء ترحالِهما وبحثهما عن مكان آمن تلتجئان إليه.
في المستشفى, بدت كل الأقسام مزدحمة بالبشر, حتى الممرات كانت تعج بالمرافقين, فأعدادُ المرضى الذين يقصدونه لتلقي العلاج تزداد مع ارتفاع أسعار العلاج في العيادات الخاصة وأسعار الأدوية. لعله هذا المشفى الحكومي أكثرُ الأمكنة التي تشبهُ الوطن بحالتهِ تلك, بالتنوعِ الغريبِ لمرضى جمعهم الفقرُ والخوفُ والمرض على اختلافِ طوائفهم ومدنهم وقناعاتهم يشبه الوطن بأقسامه المهملة الخاضعة ِلمزاج ِأشخاص متفردين برأيهم وبالمرضى المنهكين داخلهُ, وأجسادهم المترامية على أسرّةٍ غيرَ صالحةٍ للنومِ أو الاسترخاءِ, وبِجدرانهِ المتقدة ِبالحِّر تارةً والبردِ تارة, وبأدواتهِ وأدويته وأجهزته التالفة وغير المصانة وبأنفاس يكاد يزفر آخرها تعباً، هو صورة مصغرة عن الوطن.
…
جميعُ وجوهِ النساءِ بدت لي متشابهةً وأمي إحداهن, فالحزنُ نجحَ بالتسللِ الى قلوبهنَ, ولبس بإتقان وجوههنَ, وكان ذلك واضحاً عندما بدأت أحاديثهن تنسابُ مع الدواءِ المتسرب قطرة ًقطرة من الزجاجاتِ البلاستيكية المعلقةِ على أعمدةٍ بجانبِ الأسرة الى معاصمهن. بدت لي حكاياتهنَ متشابهة جداً عندما لخصتها أمُ سلوان، المريضة الأكبر سناً في الغرفة، بجملة واحدة : “الله يلعن أبو الحرب”.
كانت أمُ حبيب لا تزال متجمدة ًهناكَ عند البابِ, ولم تنتبه لأحاديثهنَ, ولا لوجه أم خالد المرأة الستينية التي رفضت دخول الغرفة ورمتها بنظرة ازدراء وهي تتجاوزها عند الباب. فكرت وأنا أراها تنظر إليها بعيون مليئة بالغضب وتتفحص زيّها المختلف بأنه لم يعجبها أن تتشارك الغرفة مع “نازحة”. نظرة الإزدراء تلك لفتت نظر الجميع, خاصة عندما حاولت ابنتها بعد دخولهما أن تساعدها بالجلوسِ بجانب سمية (المختلفة) , التي عدَّلت من جلستها لتوسّع لها بجانبها, فالمكان مزدحم بالمرضى, ولم يعد فيه أي سريرٍ فارغ.
وقفت أم خالد فجأة, وصرخت بغضب بوجه ابنتها قائلة على مسمع الجميع :”أنا أم الشهيد بدك تقعديني جنب هذول”؟
أسرعتُ محاولة أن أحل المشكلة فقدمتُ الكرسي الذي كنتُ اجلسُ عليه بجانب أمي المريضة وأعطيته لأم خالد, فاستراحت عليهِ , لكن علامات عدم الرضا بقيت على وجهها.
ساد الصمتُ والذهول للحظات ونحنُ نراقبها وهي تهَمسُ بأذن الممرضة التي اقتربت لتعطيها الدواء:
– “أنا أم الشهيد، معقول أن لا أجد سريراً في هذا المشفى؟”.
تنهدت ابنتها التي اقتربت مني لتشكرني, ووقفت بجانبي, وبدأت تحدثني عن خوفها على أمها فلقد أصابتها الصدمة, بعد سماع خبر استشهاد ابنها بالخدمة العسكرية, ولم تستطع أن تذرف دمعةً واحدة ًمنذ ثلاث سنوات وكلِّ يومٍ تزدادُ يأساً وضعفاً.
قطعَت الممرضةُ حديثنا عندما قالت وبصوت سمعهُ الجميع: “ياخاله الله يرحم ابنك. كلهن عندهن شهداء, وكل بيت بهذا البلد دفع ثمن كبير, والله يعين هالناس”.
الجميع انتبه للقهر الذي تلبس وجه أم خالد بعد كلام الممرضة, فبدأن بمواساتها.
عاد حديثنا أنا وابنة أم خالد الشابة قالت والدموع تملأُ عينيها:”أم شهيد ولسنا قادرين على شراء دواء لها ولا على الذهاب لعيادة طبيب، حتى أننا ما عدنا حصلنا على راتبه، لن ترتاح هنا، متاكدة من ذلك”.
“قلت لها: “أمك تحتاج لرؤية الناس والحديث مع مثيلاتها من الأمهات وبعدها ستعرف أنها ليست وحدها المصابة والمتألمة. ستتشارك الألم معهن … اصبري يومين وسترين”.
لم أكد أنهي جملتي حتى جاء صوت ام جابر من زاوية الغرفة البعيدة: “ابني كمان شهيد وما شفته ولا ودعته ولا أعرف له قبراً لأزوره، على الأقل يا أختي أم خالد انت ودعت ابنك وبمراسم أيضاً”.
ما أن أنهت كلامها حتى شهقت باكيةً, وجميع النساء بكينَ معها, والدموع غطت وجوههن .
لكن أم خالد ضلَّت عيناها متحجرة وكادت تختنقُ وهي تسمعُ بكائهنَ, وكأنهُ حجارة تضربها من كل الإتجاهات.
“أهذا مستشفى ام بيت عزاء؟!” قلت في نفسي.
” معليش ابكوا … البكاء يطهر الروح ويشفي النفوس، الله ميزنا به نحن النساء لتبقى قلوبنا طيبة ومحبة”. قالت أم سلوان.
وما هي إلا لحظات حتى سمعنا صوت رصاص قريب أفزعنا, وكلٌّ منا وبدون تفكير اقتربَت لتحضن أمَّها وبدأنا بالتخمين: لعله اشتباك حصل أمام قسم الإسعاف؟ أو بالبهو الخلفي عند مدخل المستشفى؟
عندها دخلت الممرضةُ, ونبَّهتنا لعدم الاقتراب من النوافذِ , وأخبرتنا أنَّهم مجموعة من _الزعران _الذين أتو ليستعيدوا زميلهم, الذي دخل بغيبوبة بعد حادث إطلاق النار عليه.
قالت الممرضة ببرودٍ :”نحن تعودنا على هالمشاكل, القانون غايب, وهؤلاء الزعران للأسف عم يكونوا هني المنتصرين دائما, لأنه سلاحهم أعمى مثلهم”.
تلك المشكلة جعلت الجميع ينسى آلامه ودموعه. انتفضت النساء من أسرتهن ليعرفن أكثر عن الحادث, عندها بدأت الأخبارُ تأتينا من كلِّ صوبٍ وحدبِ, لقصة تتكرر كل يوم.
هم شباب تورطوا بالاتجار بكل شيء, ورغم أنهم باتوا معروفين للسلطات لكن أحداَ لم يستطع الوقوف في وجههم, واليوم وأثناء محاولة أحد رجال عصابتهم أن يأخذ “أتاوة” من أحد التجار المتطرفين, جن الرجل لسبب ما وسحب سلاحه فتشابك الطرفان وكانت النتيجة أن أصيب أحد رجاله فنقلته سيارة الإسعاف إلى المستشفى .
كان خوفهم ليس على زميلهم المصاب, بل على مصيرهم المعروف هم والمستترين خلفهم, فإذا بدأ التحقيق سيكون الكثير منهم بأسمائهم الكبيرةِ في خطر.
وبالفعل أخذوه وبقوة السلاح, من داخل المستشفى, و قبل أن يبدأ أي تحقيق بالأمر.
أقسم احد الأطباء أنهم مرة أجبروه على إجراء عملية لأحد هؤلاء الشباب وهم يصوبون إلى رأسه المسدس, وقاموا بتعليق قنبلة في رقبة طبيب آخر لينهي العملية بسرعة.
تنهدت أم سلوان وبدأت بكلماتها تحاول أن تهدئ من روعنا, فقالت بهدوء:”هؤلاء مثل الزرع السام. الأخلاق يا إمي ليس من السهل أن تغادرنا، هاي منزرعها بأرواح أولادنا عندما نلدهم، لكن للأسف بعض الأمهات تفشل في ذلك”.
بعد توقف أصوات الرصاص بحثت سمية عن أمها وكانت جالسة القرفصاء ومتجمدة عن باب الغرفة واعتقدنا جميعا أنه صوت الرصاص ما جعلها تتجمد في هذه الوضعية. لكن سمية أزاحت الكمامة عن فمها بسرعة وبدأت تنادي أمها بصوت خائف: “شو صار؟ إمي … شو صاير؟”.
تحركت أخيرا أم حبيب من مكانها, واقتربت من ابنتها وعينيها لازالتا معلقتين بجوالها, وفجأة بدأت تتحركُ بشكل هيستيري تعرضُ علينا صورة طفلة صغيرة, وتقول مبتسمة:
“شوفوا هاي حفيدتي, صار عمرها خمس سنين, وما شفتها. أنا طلعت من الغوطة مع بناتي من سبع سنين وتركت أولادي وزوجاتهن هناك … نعم … بعدني ما شفت حفيدتي”.
قبلَّت الصورة وضمتها مرات وأكملت: “وجهها الحلو … لم أقبله ولا مرة”.
الجميع قال: “الله يخليها، الله يحميها”.
توقفَّت فجأةً, وغصت بحنجرتها الكلمات وقالت : “هلق من شوي الله أخذها”.
و تابعت بحرقةٍ مؤكدةً: “هنيك مو بس فيه الرصاص, هنيك السما عم تشتي قنابل وموت”.
قالت ذلك وبدأت تضحك بشكل هستيري.
رمقتها أمُّ خالدٍ بنظرةٍ وعدلت من قوس حاجبها قليلاً, وبدأت تنصت للمرأة بحرص واستغراب.
فأكملت أم حبيب وهي تنظر لصورة حفيدتها بهاتفها :”نحنا شو ذنبنا ؟ وهذه الصغيرة شو ذنبها ؟ يالله شو كان عمرها قصير، أقصر من عمر العصافر…!”
اقتربتُ منها أنا وجميع النساء محاولين مواساتها, فغطت الدموع وجوهنا.
بدأت أم حبيب ترتجفُ, , فاقتربت أم سلوان, وخلعت شالها الصوفي بسرعة لتغطي كتفي أم حبيب به, وقالت بصوتٍ مخنوق: “هاي الحرب بشعة, وما حدا رح يوقفها إلا نحنا الأمهات, لازم تكونوا أقوى يا إمي”.
لكن أكثر الدموع التي فاجأتني, تلك الدموع التي كانت عالقة بعيني أم خالد والتي تساقطت بغزارة فجأة.
دخل الطبيب لينهي ارتباكي وعدم قدرتي على الكلام، عندما أخبرني أن والدتي أصبح وضعها ممتاز, ولم تعد تحتاج لعلاج بالمستشفى، فرحت للخبر لكن كلام أمي أثار استغرابي عندما قالت :
“يالله ما عاد رح شوفهن, كنا متسليين معهن!”
أمي المرأة التي كانت تظن أنها الأعظم هماً, وتعتقدُ أنها أكثر من دفع ثمن هذه الحرب, بعد هجرة أولادها قسراً! تغيرت بعد دخولها للمستشفى ولقائها بأمهاتٍ مثلها.
ما هي إلا بضعة أيام, بعد عودتنا للبيت, حتى أتاني ذلك الاتصال الغريب:
- ألو مرحبا. أنا خالتك أم خالد عرفتيني؟ التقينا في المشفى…
- أي أهلين
- قولي لأمك إني بدي روح أنا وإياها نزور أم حبيب اليوم, ونعزيها بحفيدتها.
أقفلتُ السماعة غير مصدقةٍ, وعاد إلى مسامعي كلامُ العجوز أم سلوان وهي تشيُر لقلبها:
“نحنا الأمهات رح نقدر نوقف الحرب لما نرجِّع المحبة لقلوبنا , ولقلوب أولادنا … هذه معركتنا”.
خاص “شبكة المرأة السورية”