رائدة كريم
(ياما تمنيت الموت، وما إجا) … قال سامر بعد تسعة شهور من اعتقاله، فلم يكن أحد من أفراد أسرته يعرف أين هو، كل ما عرفوه أن عناصر من الأمن العسكري في إحدى مناطق ريف دمشق دهموا مكان عمله نهاية عام 2012، واقتادوه في سيارة جيب عسكرية مع حوالي عشرة شبان إلى مقر مركز الأمن في منطقة أخرى، كانوا جميهعم معصوبي الأعين، والبنادق الروسية على رؤوسهم.
ترجلوا من السيارة بالضرب والركل. أُدخلوهم إلى المقر العسكري. حقق معهم رئيس الفرع وهو يُسمعهم أقذر الشتائم التي كانت تخدش روح سامر، إلى أن تلقى ضربة على رأسه بكعب البندقية غيبته عن الوعي وعن العالم تسعة شهور، لم يعرف أين كان، وكم لبث في كل معتقل.
لم يعرف سامر الملتزم دينياً إلا هوية القليل من الشبان الذين اعتُقل وإياهم، وذلك عندما سمع أصواتهم أثناء التحقيق الأوليّ، لكنه لم يعرف أن شقيقه وشقيق زوجته المنشقّ عن الجيش كانا معه، وهو الذي انضمّ إلى مجموعة تكونت من حوالي 50 شاباً كان هدفها حماية المنطقة التي ينتمون إليها من عمليات السرقة والخطف التي انتشرت مع بداية تسلح الثورة، واختلاط الحابل بالنابل.
كان المعتقل – وأيّ معتقل نقل إليه – معتماً جداً، الرطوبة تسربت إلى عظامه، وروائح مختلطة تنشّقها، هي مزيج من روائح الجثث المتحللة، والقيء، والبول، والخراء، والمياه الآسنة. روائح كانت تدفعه للتقيؤ، حدّ أنه كان يشعر أنه سيتقيأ أحشاءه الفارغة أصلاً.
بدا مرهقاً جداً حين عودته إلى بيته. حكى عن القليل جداً مما تعرّض له، وهو المقلّ في الكلام أصلاً، كان يبكي عندما يتذكر، ثم يصمت بعد دعائه لله أن يلهمه الصبر.
غاب عن أسرته ووزنه 107 كغ، وعاد إليها ووزنه 43 كغ. أما آثار التعذيب على جسده فلم ترها إلا زوجته. لا يذكر سامر كم مرة فقد الوعي أثناء حفلات التعذيب التي خضع لها. عُذِّب كثيراً باستخدام أدوات بدائية ومتطوّرة. المحققون الكثر الذين تولّوا تعذيبه وتوالوا على ذلك قالوا له مراراً: (موصّى فيك يا ابن الحرام)، وبعد كل تعذيب كان يُجرّ إلى محبسه الانفرادي إلى أن يستفيق من نوبات الألم.
مرت عدة شهور – اعتقد سامر أنها كانت ثلاثة – ثم نُقل إلى مكان آخر أعلى من الطابق الذي كان فيه، فقد صعد درجاً مكوناً من حوالي 40 درجة، بعدها استقر في غرفة معتمة، لا ضوء فيها إلا ذاك الآتي من نافذة صغيرة جداً أعلى أحد الجدران، ثم جيء بشخصين ورُميا داخل الغرفة، لم يتبين هويتهما، بالكاد رأى جسدين نحيلين جداً يُركلان، فظلّ هو يسند ظهره إلى حائط، وهما عند حائط آخر.
مرت الدقائق الأولى ثقيلة على الثلاثة، وخلالها كان يسمع همسمها. اللهجة بدأت تشدّه، هما يتحدثان بلهجته، سألهما وجِلاً: (مين إنتو).. سمعا لهجته، صوته، نبرته، عَرِفاه، ثم عرّفاه هويتهما، كانا شقيقه وشقيق زوجته.
لم يذكر سامر بعدها ما حصل، وكيف عانق شقيقه سعد، ومحمد شقيق زوجته. استمروا في المحبس ذاته عدة أيام، ثم أبعدوا ثانية، لم يعرف إلى أين أُخذا، ولم يعرف ماذا سيكون مصيره، إلى أن أخلي سبيله بعد محكمة و”محاكمة” أقرت أنه مذنب، وتهمته (تمويل أعمال إرهابية).
قال: (سمعت إنو سعد فقد النظر بسبب التعذيب، وسمعت كمان إنن استخدموه لتعذيب المعتقلين، أما محمد فما سمعت عنه أي شي على الإطلاق. جمعونا وفرقونا وقت بدُن). مشيراً إلى الأمن.
بعد إصدار الحكم، والتوقيع على ورقة لا يعرف محتواها؛ اُعيد سامر إلى بيته، خاف منه أقرباءه، وكذلك أنصار الثورة الذين اعتقدوا أن الأمن جنّده لصالحهم. طرحوا أسئلة عديدة، كيف يستمر في المجاهرة بمعارضته للنظام على الرغم من اعتقاله وتعذيبه؟ لماذا لم يخش من استمرار علاقته بالمتعاطفين مع الثورة؟ هل جنّده النظام؟ هل يريد الوشاية بأحد؟ هذه بعض الأسئلة التي طرحها البعض من باب الجهل بالأمور.
بعد أشهر قليلة اعتُقل سامر ثانية مع زوج شقيقته جهاد في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2013، لكن اعتقاله الثاني تم من قبل عنصر من “الجيش الحر”، وعنصر آخر من “داعش” كما قيل.
شهر ونصف وأهله لم يكفوا عن البحث عنهما، إلى أن وُجِد جثماناهما في عز الشتاء في مكان مهجور يتبع جيش النظام، وإلى جانبهما ثلاثة جثامين، لشخص كان معارضاً، وآخر كان موالياً، وثالث يقال إنه “درويش”. وجد الجثامين راعِ، وعليها بقايا ثلج.
تقول رواية: (إن الشك فيه كان الدافع وراء اعتقاله الثاني، فيما اعتُقل جهاد لأنه موالٍ للنظام، والذي سبق وأن خطفته عصابة ولم تُعده إلى زوجته وأطفاله إلا بعد دفع مليوني ليرة سورية بداية عام 2012.
بعد اعتقالهما اقتيدا إلى منطقة تعرضت لاحقاً لهجوم من قبل جيش النظام، فتم تهريبهما، وخلال تلك الأثناء؛ قرر عنصر من الجيش الحر “داعشي الهوى” الخلاص منهما، فأنزلهما من سيارة بيك آب وهما معصوبا الأعين، أجبرهما على السير تحت تهديد السلاح مبتعداً بهما عن رفاقه، ثم عاد وحده.
ظلم وقهر وجوع وألم وخذلان واغتراب، ذلك بعض ما شعر وأفصح به سامر وهو على قيد الحياة بين الاعتقالين، تاركاً وراءه زوجة هربت بطفليها إلى خارج سوريا، وأم مكلومة تلملم جراحها وحيدة.
خاص “شبكة المرأة السورية”