لونا وطفه
“تكلمي وإلا نشرت صورك على صفحتك الخاصة”.
بعد الضرب و الإهانات الشتّى، و جميع الاعترافات على نفسي مما أذكره ولا أذكره، جاء تهديد المحقق لي بنشر صوري الخاصة مقيداً لخصوبة الخيال باختلاق اعتراف جديد.
كنتُ قد هيأت نفسي منذ لحظة الاعتقال لاحتمالات التعذيب لكثرة ما شهدناه في سني الثورة خاصة بعد اكتشافهم ملفاتٍ في حاسوبي الشخصي تتعلق بتوثيق جرائمهم، لكن اهتمامهم البالغ بصوري الخاصة أكثر من الأدلة المتوافرة لديهم كان مفاجأة صاعقة! أنوثتي تُغتصب الآن بينما يستعرض المحقق صوري ويفترسها بشهوانية ذكورية مقززة.
“الجردون” هكذا يلقّب ذاك المحقق في فرع الخطيب الذي اشتُهر بتحرشه بالفتيات أثناء التحقيق، بيد أنه لم يتعدَّ التحرش اللفظي أو لمس الجسد أحياناً لأن فروع أمن الدولة تعتبر “الأنظف” إن صح التعبير من حيث التعامل مع المعتقلات. الأمر ذاته حدث في الفرع الأسبق “فرع الأربعين” حين تحرّش بي جسدياً سجان المنفردة ولم تأتِ شكواي للعميد في ذلك الفرع بأي نتيجة.
لم يلقِ “الجردون” بالاً لما أتلوه من اعترافاتٍ كاذبة، حتى أنه لم يفرغ اعترافاتي على الورق إلا في التحقيق العاشر والأخير لدرجة أنه نسي حتى أن يأخذ بصمتي على تلك الاعترافات وقد تدارك المحققون الأمر في الفرع “285” حيث أُخذت بصمتي هناك قبل أن يعاد التحقيق معي للمرة الثالثة. كان ما يشغله استعراض الصور ومن ثم تكرار العبارة التي ما فتأت تعاد على مسامعي طوال رحلتي في الأفرع “لستم سوى ثورة عر*** و شر****!”.
في ساعات الاعتقال الأولى سمعت هذه العبارة أول مرة، كل ما سعى ورائه المحقق حينها أن يرغمني على الاعتراف بأنني على علاقة غير شرعية بأولئك الذين أتعامل معهم من شباب الغوطة الشرقية، ويعيد تلك الجملة مراراً وتكراراً امام كل سؤال أعجز حتى عن كتابته لشدة امتهانه وبذائته ليثبت اتهامه المذكور بأي طريقة كانت، ومع إنكاري المستمر لذلك امتد التحقيق الأول ست عشرة ساعة متواصلة ولم ينتهِ إلا حين كدت أقع مغشيّاً عليّ من شدة التعب.
ارتفعت وتيرة الامتهان والبذاءة مع كل رحلة في باقي الفروع الأمنية ،ومع اصراري على نفي تهمة العلاقة غير الشرعية، ما كان من المحقق في آخر فرع زرته إلا أن قال لي: إما أن تؤكدي ما كتب أمامي في التحقيقين الأولين أو أعيدك للفرع الأول ليعاد التحقيق بالكامل! .. أؤكد ما شئت لكن أرجوك لا تعدني إلى هناك ! حسم جوابي هذا التحقيق لأحال بعدها لإيداع كفرسوسة ومن ثم لإيداع ركن الدين ثم إلى السجن المركزي في نهاية المطاف.
لم تكن موضوعات التحقيق الذي خضعت له في الفروع الأمنية حاضرة في ملفي لدى استجوابي أمام قضاء محكمة الإرهاب، بل استندت التهم على أدلة همّشها المحققون سابقاً لتوجَّه لي تهمتا الترويج الإعلامي وتمويل الثورة دون علمٍ مُسبق مني بذلك قبل وقوفي أمام القضاء لأدرك حينها أن التهم كانت مقررة منذ بداية الاعتقال لحظة عثورهم على الأدلة وأن كل ما حدث في التحقيق من انتهاك نفسي وجسدي لم يكن بقصد انتزاع الاعتراف على الإطلاق.
أُحضرت نغم، تلك الفتاة العشرينية ذات الوجه الجميل، إلى فرع الخطيب وهي فاقدة العقل، لا ندري متى حدث لها ذلك، ولم نتمكن من تبيّن صحة أقوالها حينما أخبرتنا عن تعذيبها واغتصابها، بيد أن علامات إطفاء السجائر على صدرها تُنبئ بالكثير. كانت نغم فتاة مثقفة تتكلم الإنكليزية بطلاقة فأدركت أنها حديثة عهد بالجنون، ولم يشفع لها جنونها رغم ذلك أمام وحشية الضرب وعذاب المنفردة لأنها كانت تصرخ كثيراً وتشتم عناصر الأمن.
فاطمة فتاة في التاسعة عشر من العمر، اغتصبها اثنان من عناصر اللجان الشعبية، وحين هددت بفضحهم اعتقلوها بتهمة الإرهاب.
“يجب أن تشكري الله كثيراً أنكِ هنا” سمعتُ هذه العبارة كثيراً من بعض عناصر الأمن وبعض المعتقلات الموجودات في فروع أمن الدولة، في وقت لاحق وبعدما شهدته وسمعته من أهوال، أدركت المعنى الحقيقي لتلك العبارة “يجب أن تشكري الله كثيراً أنك في أفرع تكتفي بالتحرش ولا تصل للاغتصاب الكامل”.
بمفهوم الاغتصاب العام، قليلاتٌ هنّ الفتيات اللاتي استطعن الافصاح عما حدث لهنّ، لذلك ليس من الممكن توثيق وحصر حالات الاغتصاب في الفروع الأمنية، لكن بمفهوم الاغتصاب الحقيقي لا أعتقد أننا بحاجة للتوثيق، فجميعنا تعرضنا بطريقة أو بأخرى للاغتصاب من مخصيين نفسياً هاجسهم هو هذا الأمر لذاته لا بغية انتزاع اعتراف ما، فحين ينعتنا الجلاّد بالـ”شر**** والعا***”، وحين يلمس أجسادنا أثناء التحقيق، أو يخلع عنها ملابسها بحجة التفتيش.. كل ذلك اغتصاب، انتهاك الشرف والكرامة لا يقل سوءاً عن انتهاك الجسد.
عام ونصف العام، هي الفاصل الزمني بين ما عشته وبين ما تجود به الذاكرة عن تفاصيل المعتقل، يقيم في هذا الزمن الممتد ألم نازف أبكم الصرخات كأصوات من بقين في غياهب العدم حين تنسيهنّ عذابات المعتقل مطالبَ الحرية، ليكون مطلبهن الأول: الحياة؛ إن صحّ أن يكون في ذاك الجحيم… حياة.
اللوحة: “لونا وطفة”
عن موقع “أبعاد الإعلام”