Search
Close this search box.

سوريون يصرون على الحياة في ظل الإعاقة

سوريون يصرون على الحياة في ظل الإعاقة

ليال يوسف

 تم توثيق مقتل أكثر من 150 ألف شخص بسبب عنف النظام منذ بداية الثورة السورية، لكن الرقم الذي كثيراً ما يُغفل هو عدد الجرحى، والذي تجاوز النصف مليون وفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر. وقد عانى عدد غير محدد منهم من إصابات بالغة أدت إلى إعاقات جسدية دائمة. ويمكن ملاحظة أن الصراع السوري غير مميز بهذا الخصوص، فجميع الحروب تشوه وتقتل، لكن المختلف هنا هو السلاح المستخدم في المذبحة، ففي كمبوديا كان السلاح ألغاماً أرضية، وفي العراق عبوات متفجرة وعمليات انتحارية، أما في سوريا فالذنب ذنب المدفعية والغارات الجوية المحملة بالبراميل المتفجرة.

معظم حالات الإعاقة الجسدية الحاصلة هي نتيجة فقدان واحد من الأطراف أو أكثر، لكن، وبمساعدة بعض المنظمات الدولية المتخصصة تم تأمين أطراف اصطناعية لعدد كبير من الحالات ومتابعة لسير عملية التأقلم مع الطرف الجديد نفسياً وجسدياً. وسُجلت قصص نجاح وإصرار كثيرة تدل على عزيمة سورية لا تلين، وإن عانت من لحظات ضعف في وجه طغيان لا يرحم، والقصص الثلاثة التالية تتحدث عن أمثلة لهذه العزيمة.

حياة جديدة

يقطب «مصطفى أحمد» حاجبيه وهو يدخل ما تبقى من ساقه في الساق الاصطناعية الجديدة، مد يديه إلى الجانبين ليحافظ على توازنه، ارتفع ببطء ومشى متعثراً على الأرض الترابية لخيمته الآيلة للسقوط باتجاه بابها. يطل أطفال ذوي شعر أشعث من فجوة في الغطاء البلاستيكي الذي يمثل حيطان الخيمة، محاولين إلقاء نظرة على عملية تركيب طرف اصطناعي لأحمد، بعد أكثر من عامين على فقدانه ساقه في غارة للنظام على بلدته في شمال سوريا. بعد انتهائه قال أحمد، وجبهته تلمع من قطرات العرق: «أشعر برغبة في السير لمسافة طويلة، لأذهب وأرى أصدقائي وجيراني. أشعر بأني استرجعت ساقي، أشعر بأني طبيعي وعدت كما كنت».

أصيب «أحمد» (19 عاماً) بشظايا مزقت جزءاً من ساقه، إثر غارة جوية للنظام في تشرين الثاني 2011 على بلدته «دير حافر» التابعة لحلب. يقول «أحمد» عن الحادثة: «عندما استيقظت في المستشفى شعرت بألم شديد، وعلمت أني فقدت ساقي، أول إحساس انتابني هو أن حياتي انتهت، لم يعد بإمكاني السير أو العمل أو الخروج. كنت وحيداً مع سريري وفقدت الأمل». مع قلة الخيارات في سوريا استخدم «أحمد» العكازات ليتحرك، ومن ثم صنع هو ووالده ساقاً اصطناعية منزلية هزيلة من البلاستيك والجوارب، استخدمها لستة أشهر قبل أن يتخلص منها لكونها غير مريحة ومؤلمة، بالإضافة لقصرها، مما جعله يعرج أثناء استخدامها كما يقول.

ازداد العنف في المناطق الشمالية السورية مطلع عام 2013، ما دفع بأحمد وأسرته لمغادرة دير حافر إلى لبنان. يعيشون الآن على أطراف أرض زراعية في مخيم متهالك، تتكون خيمه من أخشاب ومسامير وأغطية بلاستيكية خارج بلدة «جب جنين» في وادي البقاع.

حصل أحمد على ساقه الاصطناعية الجديدة من «المنظمة الدولية للمعاقين»، وهي منظمة غير حكومية تقوم بمساعدة اللاجئين السوريين في لبنان والأردن، الذين فقدوا أطرافهم، وذلك كجزء من نشاطها العالمي.

يتحدث أحمد: «أسوأ إحساس عشته خلال العامين السابقين شعوري بأنه لم يكن أحد بجانبي، انتهى الأمر بالنسبة لي، وفكرت بأني لن أحصل على ساق ولن أستطيع المشي ثانية. الآن وبما أنني حصلت على هذه الساق يمكنني أن أجد عملاً، وأذهب أينما أريد وألتقي بأصدقائي». حالما خرج من الخيمة تقدم أحمد ببطء على ممر ترابي يحيط بحفرة صغيرة، بينما يراقبه عجوزان من خيمتهما بهدوء، ويتراكض الأطفال حوله ليشاهدوا كل خطوة يقوم بها.

يقول «هنري بونين» (وهو مدير ميداني في المنظمة الدولية للمعاقين) إن المدة الزمنية للتأقلم مع طرف جديد متفاوتة، وبشكل عام يعاني البالغون أكثر من الصغار، وكذلك الذين فقدوا ساقاً من فوق الركبة. كما أن نوعية العملية الجراحية المجراة هي عامل آخر مؤثر، وتتفاوت بشكل كبير في صراع كالجاري في سوريا، فبعض عمليات البتر تتم في مشافي ميدانية أو عيادات مؤقتة. ويضيف: «هناك حالات بتر طارئة، لذا لا تتم على يد جراح عظام بل على يد جراح عام أو طبيب أسنان. في الحالات الطارئة والحرجة، الأهم هو إنقاذ حياة المريض». ويتابع «بونين» بأن العديد من الأطباء في هذه الحالات يقصون العظم بشكل عمودي وليس بزاوية كما يفترض، وإذا كانت نهاية العضو مسطحة بدلاً من أسطوانية، سيحتاج المريض لعملية ثانية أو ثالثة لتصحيح المشكلة والسماح باستخدام طرف اصطناعي، وهذه العمليات مؤلمة جداً للمريض. المرحلة الفيزيائية صعبة ومنهكة وتوازيها صعوبة الجانب النفسي لفقدان طرف بالنسبة للعديد من السوريين.

من أجل أولادي

«ريم دياب» سيدة سورية في الرابعة والثلاثين من عمرها، قصف منزلها بقذيفة في 25 تشرين الأول من عام 2012 في مدينة خان شيخون وسط سوريا، توفي زوجها مصطفى وابنتها بتول على إثرها، وعانت هي في الأشهر التالية للحادثة أزمة نفسية حادة، فكان شعرها يتساقط ووجدت صعوبة بالغة في أداء المهام اليومية البسيطة. انتابها أيضاً خوف من أن ابنتها وابنيها الناجين سيرتعبون من منظر أمهم وما تبقى من جسدها أدنى الجهة اليمنى من حوضها، لذا رفضت رؤيتهم لها على هذه الصورة، أرسلتهم إلى خالهم وجدتهم ليعيشوا هناك. تقول «دياب»: «لم أرحب برؤية أي شخص بسبب وضعي الجسدي، وليس فقط أبنائي. لم أرد أن يروني في هذه الحالة، وأنا غير قادرة على التغلب عليها».

جاءت «ريم» إلى لبنان بعد شهرين من عملية البتر، وتم تأمين ساق اصطناعية لها في نيسان 2013، بعدها قام معالج فيزيائي ومعالج نفسي من المنظمة الدولية للمعاقين بزيارتها عدة مرات لمساعدتها في إعادة التأهيل النفسي والجسدي، وقد تأقلمت ببطء مع الطرف الاصطناعي بالرغم من صعوبة العملية. تتحدث «ريم» عن ذلك: «إنها ليست ساقي الحقيقية، أشعر بأنها جسم غريب ولا أستطيع التوازن باستخدامها».

تعيش «ريم» الآن مع أطفالها في خيمة منصوبة على سطح بناء في شتورة بلبنان، تتشارك هذا السطح مع والديها وإخوانها الخمسة وعائلاتهم المكتظين في عدد قليل من الغرف المتلاصقة. ونزولاً عند رغبة المعالج الفيزيائي وإصراره، نزلت «دياب» ببطء على الدرجات الإسمنتية باتجاه الشارع الترابي في الخارج، وعرجت أثناء سيرها بقلق على الرصيف. قالت «ريم»: «اعتاد أبنائي رؤيتي بساق اصطناعية، لقد سألوني أسئلة كثيرة مثل (لماذا تخليت عنا؟)، لكنهم سعداء الآن لأنني أستطيع المشي».

إصرار على الحياة

«أحمد» شاب ممرض من قرية إبلين في ريف حلب، يعمل كمسعف، فقد ساقه أثناء محاولته إسعاف جريح أصيب في قصف للنظام على المنطقة، بعد سقوط قذيقة بجانبه، فتم إسعافه هو والجريح معاً ودخل في غيبوبة لعدة أيام بعد الحادثة. يقول «أحمد»: «سمعتُ صوت القذيفة، ثم وجدت نفسي في المشفى الميداني، أخبروني بعد مرور عدة أيام على غيبوبتي، شعرت بألم في رجلي، مددت يدي…» ويختنق بدمعة يصعب إخفاؤها، ثم يتابع: «أصبت بشظية في ساقي تسببت في بترها لاحقاً. استمر علاجي حوالي شهرين، وعندما أكملت العلاج سافرت إلى تركيا، وركّبت ساقاً اصطناعية أعادت لي القدرة على المشي بشكل طبيعي إلى حد كبير».

بعد تركيب الساق الاصطناعية عاد «أحمد» للعمل في النقطة الطبية الوحيدة في قريته، لكنه سرعان ما غادرها بسبب إصرار زملائه على عدم ضرورة وجوده وهو في هذه الحالة، وقام بعد ذلك بافتتاح نقطة طبية متواضعة لوحده يقوم فيها بالإسعاف والتمريض. يقول «أحمد»: «لا شيء يثنيني عن ممارسة عملي في معالجة الجرحى والمصابين، إنه العمل الوحيد الذي أتقنه، وسأستمر في خدمة الثورة حتى النصر».

ويضيف فيما يخص بداية افتتاح النقطة الطبية: «بدأت العمل في نقطتي الطبية بأدوات تضميد الجروح فقط، ومع دعم أهل الخير تطور العمل»، وتطوع العديد من الأطباء لاحقاً للعمل في النقطة وطغى عملها وتوسعها على النقطة القديمة التي ألغيت فيما بعد. مع ذلك ليس بإمكان «أحمد» العمل في نقل الجرحى أو إسعافهم في مكان الإصابة، بسبب ساقه الاصطناعية التي لا تمكنه من الحركة السريعة، وهو لا يخفي حزنه من هذا الأمر، ويضيف أنه يعاني من صعوبة في التأقلم مع الساق الاصطناعية، ولا يملك الوقت الكافي للتدرب عليها. لكن هذا لا يخفي سعادة «أحمد» بأنه مازال قادراً على ممارسة جزء من عمله، يقول: «العمل حياتي، أعمل 16 ساعة في اليوم، وأعود بعدها لأجلس مع زوجتي وولدي الصغير، وكثيراً ما يطلبونني لحاجة ما في النقطة فأعود إليها سعيداً».

قصص النجاح كثيرة، لكنها متعثرة في ضوء أزمات نفسية وجسدية متتالية، فمن لم يغادر سوريا، مازال معرضاً لاحتمال إصابة جديدة تفاقم حالته مع استمرار طغيان النظام، ومن غادر سوريا ما زال يعاني آلام الفقد غير المنتهية بالإضافة إلى معاناة اللجوء، فنقص الموارد وانعدام فرص العمل والمعاملة السيئة من قبل الدول المستضيفة، لا تضيف إلا كآبة وصعوبة في التركيز على التأقلم مع الطرف الجديد. ومازال العديد من المصابين الذين فقدوا أحد أطرافهم غير قادرين على الوصول إلى المنظمات المختصة، بسبب الحصار وانعدام إمكانية الخروج من سوريا، كما هو الحال في الغوطة الشرقية بدمشق.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »