Search
Close this search box.

غزة … نساء وصمود

غزة … نساء وصمود

هبة هنداوي
على مدار ما يزيد عن خمسة وأربعين يوماً، رصدت العدسات وكل وسائل التصوير مشاهد القصف والدمار والبيوت المهدمة وجثث الشهداء ودموع المقهورين في غزة. كان التسجيل حاضراً في كل لحظة يوثق الدمار والدموع ويسجل مواقف بطولة وصبر تعجز عن وصفها الكلمات. يحفل التاريخ بالحروب والصراعات والاعتداءات، لكن ما يجعل الأمر فارقا في زماننا هي وسائل التصوير والتوثيق المتعددة التي أتاحت نقل المشاهد لمن هم خارج الحدود الجغرافية لتجعلهم شاهداً على الظالم ومعينا للمظلوم.
لكنها أيضاً رصدت فيما رصدت مشاهد خالدة للمرأة الفلسطينية الصامدة حية وميتة. طوال اليوم، وفي خضم العدوان المتواصل وانتظار الموت في أية لحظة، كانت مصدر الأمان، نراها ونحن على بعد أميال بعيدة وعبر شاشات صغيرة ترسم البسمة وتبث الطمأنينة فيما حولها وهي تحتضن صغارها وتشد من أزر رفيقاتها. هُدم بيتها ودمر العدوان مطبخها وأوانيها ومستلزماتها كلها، لكنها لا تعجز ولا ترتبك بل تقف بكل عزيمة وإصرار تفكر وتخترع أوانى خاصة بها. لا تعرف المستحيل؛ نراها تخبز ما تبقى من دقيق صالح للاستخدام على مواقد بدائية الصنع من الصفيح المدقوق أشعل نارها خشب وحطب وكل ما هو قابل للاشتعال. (متل ما إنت شايف بأقل الإمكانيات بندبر حالنا وبنعيش). ببهجة ودفء وأغانٍ وأهازيج يجتمع الكل حولها ويتشاركون اللقيمات والسويعات القليلة التي يغتنمونها قبل أن تفرقهم اليد الغاشمة وتبعثرهم الصواريخ المجرمة.
وفي لحظات الفقد والمصيبة تقف شامخة صابرة تواسي من حولها وتضمد جراح قلبها. تفقد صغارها، أهلها، زوجها وعشيرتها فتصرخ ملتاعة لكن لا يفت ذلك في عزيمتها وما يزيدها إلا تحدٍ ومقاومة. مؤمنة بقضيتها تفدي أرضها وبلادها بنفسها وبكل عزيز لديها. حيرتنا بصلابتها وصمودها وتربيتها لأبنائها تربية أفرزت رجالا يقاومون العدو وفتيات يطرزن أثواب العزة. تكالبت عليها منذ نعومة أظفارها كل أنواع الهموم من فقد، وتهجير، وفقر، وظلم وعدوان. وقع أحباب لها ضحية الأسر أو استشهدوا برصاص محتل غادر لكنها بقيت شامخة شموخ شجر الزيتون ترفض الذل والمهانة في إباء. لم تمنعها الظروف من توفير الرعاية والطعام والحب لأبنائها وحتى تحت قصف الدبابات وأزيز الطائرات ظلت مرفوعة الرأس.
ومن تحت الأنقاض تخرج مستورة البدن ضاحكة مستبشرة. لم نر عورة قد كشفت أو ستراً قد هتك وكأنها أخذت على نفسها عهدا بالعزة فالتزمت به حية وميتة. كم من مشاهد شاهدناها لأمهات يخرجن من تحت الركام بملابس الصلاة يحتضن أولادهن لآخر لحظة ويفارقن جميعاً هذه الحياة متماسكين مترابطين كما تعاهدوا. أي أم ربت هذا الجيل الصامد الذي يفقد كل أهله لكنه لا يجزع ولا يركع لظالم بل يصر على الحياة والكرامة؟ أي أم هذه وقد ربت أطفالها على الصمود فيلقن أخ أخاه الشهادة وهو يحتضر وتحمل أخت أختها الرضيعة بعد أن فقدا البيت والأهل وهي تتعهد أمامنا وأمام الله عز وجل برعايتها والحفاظ عليها ما كتبت لها الحياة!
ونصمت رهبة وإجلالاً عندما تبث لنا الكاميرات مشهد أم نازحة بلا زوج يعينها وبلا أهل يحملون معها طفليها. وضعت الأم كل ولد في كرسي من كراسي الأطفال وربطتهما بحبل وأمسكت طرف كل حبل بإحكام وجرتهما في طريق النزوح من شمال غزة إلى جنوبها لمسافة 15 كيلو. أي إرادة وأي إصرار على البقاء والصمود؟ وأخرى تحمل رضيعها وحقيبة صغيرة بها مستلزماتهم وتدفع أمامها عربة بها طفلين. تجر ساقيها المنهكتين بعزيمة لا تفتر تمسكا بالحياة لا من أجلها بل من أجل أطفالها. ويصم آذاننا صوت أم مكلومة فقدت أولادها الأربعة وهي تنادي عليهم غير مصدقة أنهم أصبحوا مجرد ذكرى عابرة في حياتها.
ولا يخفى علينا أنهن بشر مهما صمدن وصبرن فالعين تدمع والقلب يحزن والمصاب الأليم. تختلط المشاعر وتهتز القلوب لكنهن راسخات مؤمنات محتسبات أجرهن عند الله ويملأ الإيمان قلوبهن. الأم الفلسطينية ليست كأي أم فقضيتها قضية الأمة كلها وعزيمتها تعطينا درساً في الرضا والتدبير ووضوح السبيل مهما خذلتها الظروف وتكالبت عليها الأمم.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »