Search
Close this search box.

آن الأوان يا عرب!

آن الأوان يا عرب!

آمال شيخ دبس
كانت الشمس تودّع البحر وتطبع على صفحاته قبلة ملوّنة آسرة، وكان الجبل يلوّح لي بعد ان تدرّجت الألوان على سفحه، سيمفونيّة الموج الصاخبة كانت تناديني فبدأت اقتلع رجليّ المغروستين في الرمل وأتقدّم لأحضن المياه، رفعت يدها الطفلة القابعة بداخلي وبدأت تجدّف، وفجأة وجدتُ نفسي مستلقية على ظهري فوق سطح البحر، أغمضت عينيّ لبرهة وأنا أسترجع روعة الطريق وروعة الصحبة.
لم يرافقنا والدي، كعادته في كلّ سنة، ولنقل خالتي أمّ نضال فقط من رافقها زوجها، أمّا خالاتي الثلاث فاصطحبن أولادهنّ، وكنّا جميعاً في أعمار متقاربة، ولم يرافقهن أزواجهنّ.
السفر بالقطار من حلب إلى اللاذقيّة كان متعتي، كنّا نغنّي معظم الطريق، ونصرخ معاً حينما يدخل القطار في النفق.
والطريق من اللاذقيّة إلى الشاطئ الأزرق كان كقطعة من الجنّة .
أيقظني من شرودي هتافهم (غرقوها)، وموجات المياه التي رشقوني بها، تعلّمنا السباحة جميعنا بالممارسة، وبالتجربة، لذلك لم أكن أجازف بالسباحة بعيداً، وكنت أخاف من الغرق لذلك عدت أدراجي إلى الشاليه لأستعدّ لسهرة السمر اليوميّة.
كنّا نجلس على الرمل ونتابع سهرتنا ونحن نتبادل النكات والأحاديث والفوازير، وأكثر شخص كان مرحاً هو خالي الذي كان يصطحب عائلته بسيارته ويستأجر شاليه قريبة منّا.
أول مرّة سمعت فيها أغنية فريد الأطرش:
(زينه زينه زينه…
زينه غالية علينا
زيّ ضيّ عنينا زينه …زينه)
كان صوته نسخة من صوت المطرب فريد.
كنّا نختار حرفاً ثم نغنّي أغنية تبدأ به، وتعلو الضحكات عندما يقول أحدهم: (يا حظّي)…
لم تكن إجازتنا تكتمل إلا بأكل السمك الطازج بعد شيّه.
ولم تكن لتكتمل مالم نتناول كلّ يوم الصبّار من الباعة المتجوّلين الذين يحملون سلل الصبّار فوق رؤوسهم …
وكنّا ننهيها باستئجار مركب وقضاء ساعة ونحن نتجوّل في عرض البحر به.
حينما تزوّجت ورزقني الله بثلاثة صبيان، دفعتني تلك الذكريات الجميلة لتسجيلهم في النادي لتعليمهم السباحة، إذ كنت أخطّط للسفر معهم في القطار، ولكن غرق وطني بالدماء والفتن، وغرقت معه كلّ مخطّطاتي وأحلامي.
تنقّلنا كالقطط من منطقة لأخرى لننعم ببعض الأمان، ولكن للأسف كلّما خمدت في منطقة ثارت في أخرى، وكانت جميعها تحت وطأة القنّاص…وأخيراً رسى مركبنا في تركيا.
كانت الدموع لا تفارقني، فالأطفال في غازي عينتاب يلعبون ويمرحون ويذهبون إلى المدارس بسلام وفي وطني يقف الأطفال في طابور طويل للحصول على الخبز، ويذهب البعض إلى الجوامع لملء الأواني بالماء وجلبها للبيوت، وتتساقط الأجساد فجأة إثر قذيفة أو برميل متفجّر.
ابن خالي أصيب برصاصة قنّاص فاستشهد على أثرها وأصيبت أمه بانهيار عصبي، وبعد شهور توفي خالي بسكتة قلبية حزناً عليه وعلى أطفاله الذين أصابهم اليتم باكراً.
خالتي تحوّلت إلى أشلاء هي وعائلتها بعد أن سقط برميل فوق بنايتهم.
وخالتي الثانية فقدت زوجها بعد أن سقطت قذيفة فوق سيّارته حينما كان عائداً من عمله.
وأمّا أبو نضال، زوج خالتي الثالثة، فقد تمّ اعتقاله هو وأولاده ولم نعرف حتّى الآن مصيرهم.
ما الذي بقي من ذكرياتي؟
البحر ؟…لم أره أو أسبح فيه منذ قرابة العشر سنوات، ولم أستطع اختبار مقدرة أولادي على السباحة فيه لضيق الحال، فبالكاد نستطيع تأمين إيجار البيت ودفع الفواتير وشراء المستلزمات الأساسيّة للبيت.
القطار ما بقي من ذكرياتي؟ هناك أروع قطار في وطني، الذي يدور ببطء شديد فيوصلك من دمشق إلى بلودان.
لم أجد متّسعاً من الوقت لتعريف أولادي عليه.
هم لم يزوروا حتّى قلعة حلب، ولا شاهدوا آثار تدمر ولا مدرّج بصرى.
لم يشاهدوا روعة وجمال (كسب) و(أم الطيور) ولا وصلوا جزيرة أرواد!
وتمضي الذكريات بنا ونحن في غربتنا، وتتوزع الأقدار بين البشر، وكأنّ ستاراً يفصل كلّ عربيّ عن الآخر.
تعلو الصرخات والآهات وكلّ يداوي جرحه دون أن يعير أدنى اهتمام لأخيه المسلم .
يدفع الشباب المال الكثير لتهريبهم من سوريا إلى تركيّا أو من الأخيرة إلى دول أوروبا، وقد يدفعون الثمن أرواحهم قبل الوصول لمبتغاهم.
ومن المخيّمات تفوح رائحة البؤس والحرمان والحاجة، ولم تعد الطبيعة تستهويهم فبرد الشتاء يقتلهم وقيظ الصيف يشويهم، فتقلّصت أحلامهم أمام المستقبل المبهم الذي يلوح في أفق الوطن الجريح.
وتتوالى الأخبار والأحداث وكلّ يسمعها حسب ظروفه أو حسب تاريخه.
البعض يتابعها وهو يتسلّى بتناول المكسّرات والبزر، والآخر يتابعها بقلبه فتنهمر دموعه قهراً وألماً وعجزاً، وثلّة من يتابع الأخبار بروحه وجوارحه وعقله فيثور ويغضب، يكتب ويندّد، أو يخرج للجهاد!
لا أنكر أنّنا اعتدنا على سماع أخبار بورما وأحداث العراق واليمن والجرائم التي تنتهك بحقّ سوريا.
ولكن صوت غزّة شقّ عنان السماء وشغاف القلب.
كم تجاهلنا نحن العرب انتهاكات اسرائيل وجرائمها؟
وكم غضضنا الطرف عن ظلم الأبرياء وقتل الأطفال واعتقال الشباب وسلب الأراضي؟
صوت غزّة اليوم يمزّق الصمت المقيت.
وجبروت شعبها يهزّ عروبتنا.
حتى دموع الأمّهات والأطفال ليست دموع حزن أو مخافة الموت، إنّما هي دموع الشعور بالخذلان من كلّ العرب.
سبق ورأيت وطني مخذولاً وانفطر قلبي عليه.
لكن روحي يعتصرها الألم وانا أتابع ما يحصل في غزّة وفي فلسطين.
حروب ودمار وتهجير!
قتل دون رحمة ودماء !
ما لهذا خلقنا.
وقد آن الأوان ليستيقظ العرب.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”

One Response

  1. نخفي اشياء بداخلنا لا نستطيع البوح بها، نزكر منها المؤلمة لانها تطفو على عقولنا،وتأخذنا الى الماضي القريب والبعيد نسافر عبر الزمن ونحن نجلس بمقعدنا وكل رشفة من الشاي نعود ، وتكلفلنا هذه الاسفار مئات من الدموع المتساقطة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »