دمشق – سلوى زكزك
أبحث عن منال، لا أعرف كنيتها ولا عنوانها، بالكاد أتذكر شكلها، طولها جسدها النحيل، لكن صوتها يحفر عميقاً في ذاكرتي، هل يكفي القول أنّ صوتها غارق في حزن لا حدود له، في قهر لا تسعه الأرض، في صمت تردد السماء صداه ؟
تولد الطفلات ليتعلمن الصمت قبل الرضاعة، لكل مقال مقام، يا لسخرية اللغة، ظلم الأب يروى للأم فقط وربما للأخوات البنات، وظلم بيت الجد للأم أيضاً، لكنهن سيمتنعن بالتدريج عن تكرار الروي حفاظاً على قلب الأم المترع بالأحزان، ظلم الأخ للأخت فقط، حتى الأم ستقف مع الأخ، ستبرر له بطشه وربما تعديه الجسدي على جسد أخته، وستلجم صراخ ابنتها وتضيّق عليها الخناق أكثر.
تعيش منال في أحد المخيمات، خيام ملتصقة ببعضها، صغيرة وضيقة، الخيمة بيت بحاله، مطبخ وحمام وغرفة نوم وغرفة معيشة وبيت مونة وغرفة الضيوف ومطوى الفرش، فكيف سيكون الحال إن سكنت منال مع أولادها الأربعة وزوجها وزوجته الثانية؟ ضيق فوق ضيق، ضيق خانق ومذلّ.
ضاقت نساء المخيم ذرعا بإلحاح الأزواج في طلب العلاقة الزوجية وكأن لا شيء قد تغير، وكأن البيوت مازالت على وسعها وغرفة نوم الأبوين منفصلة والليل هادئ وساكن، والأبناء ينامون بطمأنينة ويغرقون في نوم عميق، في الخيمة، أجساد الأبناء ملاصقة لجسدي الأبوين.
تداخلَ خجل الزوجات مع حرصهن على عدم استيقاظ الأبناء أثناء انشغال الوالدين في العلاقة الجنسية، وزاد خوف الزوجات من ردة فعل الأزواج بشكل عنيف على الزوجات والأبناء، ردة فعل اختبرتها النساء كثيراً، غياب العلاقة الزوجية يعني عنفاً مبرراً للرجل، ضرب للزوجات وللأولاد، تكسير لمحتويات المنزل، تهديد بالطلاق، أو بالزواج من امرأة ثانية، حرمان من المصروف أو حرمان البنات تحديداً من الذهاب إلى مدارسهن.
لكن زوج منال لم يتأخر ابداً في رده على تشنج منال ورفضها ومخاوفها وخجلها من أطفالها، كان قد قال لها مراراً أنّ جسدها ليس ملكاً لها ولا تمتلك حق الرفض ولا التأجيل لطلبات الزوج الملحة، سبق زوجها الوقت وتجاوز التهديد والوعيد وتزوج مرة ثانية، وقرر اقتطاع جزء صغير من الخيمة لفراش اسفنجي رقيق يجمعه مع زوجته الجديدة التي أسماها العروس.
كان الفاصل ما بين زاوية الزوج والعروس وباقي الخيمة حيث تنام وتعيش منال وأطفالها ستارة قماشية رقيقة معلقة بسلك معدني نحيل.
من يومها ومنال لا تنام، أنهكها الحزن والشعور الغامر بالظلم، والخوف على مشاعر الأبناء، باتت الخيمة أضيق من فنجان قهوة أو حتى من خرم إبرة.
كانت شكوى منال كشكوى كل النساء في المخيم، لابد من حل، والرجال عقولهم كما أجسادهم لا تحتمل أي رفض أو تأجيل أو إنقاص للعلاقة الزوجية من قبل النساء.
كان مشرفو المخيم قد وعدوا ساكني الخيم بإقامة حمامين على طرف المخيم، حمام للنساء وآخر للرجال، في الصباح اجتمعت نساء المخيم، قررن الاتصال برقم أحد الموظفين المتعاطف معهن من لجنة الإشراف على المخيم، أصرت النساء على ضرورة الإسراع بتلبية طلبهن، بالرجاء مرة وبإعلاء الصوت مرة ثانية وبالبكاء مرة ثالثة، تعهدنّ بمساعدة العمال وبحمل البلوك وجبل الإسمنت وإطعام العمال، فقط كي يتم بناء الحمامين بأقصى سرعة ممكنة.
بعد ثلاثة أيام عمل طويلة ومجهدة، تم الانتهاء من بناء حمامين مرتجلين، الجدران مجرد بلوك طري بلا قشرة اسمنتية خارجية وبلا طلاء، جدران غير مدعم، تم تزويدهما بصنبوري ماء وأرضية خشنة بلا بلاط.
احتفلت النسوة بالإنجاز العظيم، وقررن أن يكون حمام النساء عشاً للزوجية! نعم لقد قررن أن يحولن الحمام إلى غرفة لممارسة العلاقة الزوجية، لكن كان على النساء ترتيب المواعيد وتقاسم الأدوار.
كان منظر الزوجة وهي تحمل على ظهرها فراشا اسفنجيا يخصها وزوجها كافيا لمعرفة أن دورهما قد حان لاستعمال الغرفة، عش الزوجية بعيدا عن أعين الأبناء وعن ضيق المكان وعن تنافر الأجساد في خيمة خانقة.
لم يمانع الرجال أبداً، واعتبروا ذلك حلاً واقعياً وربما سحرياً لأجسادهم المحرومة كما يقولون، لكن برزت مشكلة أخرى، كان يتوجب على أحد ما ممارسة دور الحارس، كي لا يقتحم أحد الأطفال المكان فجأة أو أن يصرّ طفلٌ على طلب الدخول إلى أمه العالقة في داخل الحمام في مهمة أزلية، وكي لا يتطاول متلصص على متابعة ما يحصل في داخل الحمام حين يتسلق الباب الخشبي المركب على عجل والذي لم يكفِ طوله او ارتفاعه ليحكم الإغلاق ، كان الباب أقصر من ارتفاع الحمام ، وقد ضبطت النساء مراراً ،رجالاً وشباباً غرباء متلصصين، وهم يختلسون النظر أو يسمعونهن الكلمات الفاحشة وهن يستحممن عبر تلك الفتحة المكشوفة في أعلى الباب.
تطوعت النساء لتلك المهمة، شقيقة الزوجة أو شقيقة الزوج، أم الزوج أحيانا، صديقة، قريبة، زوجة أخ، وربما ابنة لكن متزوجة! المهم أن كل زوجين كان عليهما تدبر تأمين حارسة لخلوتهما المعلنة، خلوة باتت مكشوفة للقاصي والداني، أهانت وجرحت مشاعر النساء أكثر مما رممت حاجة أجسادهن المنكمشة والمترددة، باتت الأجساد كما الأرواح أسيرة التوقيت وأسيرة الجدول الزمني وتحول الحمام إلى غرفة بائسة في فندق رخيص لنساء يمتهن الدعارة.
اعتاد الأزواج كما الزوجات كما الأبناء على حقيقة ما يجري في ذلك الحمام، إلا منال، كان عليها حراسة زوجها مع زوجته الثانية، وهما منشغلان في قضاء علاقتهما الحميمة، كان هذا قرار الزوج.
كانت تقف هناك ضائعة ومنكسرة، يهرب الوقت من بين أصابعها المرتجفة، تنتظر بصمت وتبكي، روحها تتآكل وجسدها يتهاوى، لكنها كانت الوحيدة التي رفضت دخول ذلك العش القاتل مع زوجها نهائياً، حتى عندما بادرت ضرتها أو الزوجة الثانية لعرض خدماتها في حراسة خلوة تجمعها بزوجها، أجابت منال: “لا قدرة لي على إذاقة امرأة ما ذقت من إذلال وظلم وحزن، لقد جف جسدي كما نضبت روحي”. وقالت عبارتها التي تداولها جميع سكان المخيم، الرجال قبل النساء:”يحرّم علي أبو ولادي حتى أموت”.
أبحث عن منال، لا شيء قد تغيّر يا منال! أعرف هذا، وأنت تعرفين أيضاً، وربما تمعنين الآن في نزوحك المكاني والجسدي والعاطفي، تفصيل صغير أضفته إلى جرحك القاهر، المكابر والمستمر، لقد كتبت قصتك! ستقرأها الكثيرات وسيقرأها الكثيرون أيضاً، بعضهن سيعلين أصواتهن، وبعضهن سيروين حكاياتهن، ربما يبدأ الخلاص عبر الروي، عبر الصوت، ربما تسمعين قصتك على لسان إحداهن، فتقولين هذه حكايتي! أنا منال.
خاص بـ”شبكة المرأة السورية”