راوية الصالح
عن المأساة الإنسانية في إدلب، وعبثية الحرب
كما في كل الحروب والصراعات، يدفع المدنيون العزل فاتورة الحرب قتلاً وتهجيراً، وقد تكون باهظة حدَّ الموت جوعاً وبرداً وحصاراً في دوما ومضايا وداريا، هي مأساة السوريين المتجددة كثقب أسود.
مايجري في إدلب/ سورية اليوم واحدة من أكبر كوارث الحروب، بعد الحرب العالمية الثانية، والأكبر بين كل المآسي الإنسانية التي شهدتها سورية خلال السنوات التسع المنصرمة.
أكثر من مليون إنسان فروا من مدنهم وقراهم، على شكل موجات بشرية منذ 1 كانون الأول/ ديسمبر أكثر من نصفهم أطفال، نحو المناطق والأراضي المتاخمة للحدود السورية التركية، مدن وقرى بأكملها فُرِّغتْ من ساكنيها. فقدوا الأمان والأمل في حل سياسي يعيدهم لمنازلهم، بعد أن عانوا الأمرِّين، سواء تحت سلطة النظام الغاشم، أو تحت سطوة “إمارات” فصائل المعارضة المسلحة ومزاجها الميليشياوي، المنفلت من أي قانون أو إحترام لحقوق الإنسان، فصائل “تباً للديموقراطية”.
كانت أحلام هؤلاء المهجرين بسيطة وممكنة، في أن يعيشوا بسلام كالآخرين تحت سماء لا يعكر صفوها طيران روسي أو سوري، وأرض تتاح لهم فيها الحركة الآمنة دون حاجز عسكري أوأمني، أو فصائلي.
عشرات الآلاف الآن بلا مأوى، بل ولا يمكنهم أن يجدوا أي مأوى كان، قرابة 50 ألف شخص يحتمون بالأشجار في الليالي الباردة، أو في أماكن مفتوحة أخرى. مات ما لايقل عن ستة أطفال بسبب البرد في الأيام الأخيرة الماضية.
سبق لوسائل إعلامية سورية وعربية أن نشرت صوراً قالت إنها لعائلة سورية مات أفرادها الخمسة يوم الخميس في 13/2، وكانوا يعيشون في الخيام والثلج يحيط بهم على مدار أكثر من شهر، بعدما نزحوا من إدلب إلى ريفها دون وجود أي أجهزة تدفئة ليلاً، ودون أن يعثروا على مكان آمن من البرد يمكثون فيه.
صدمة وعجز:
صدم حجم المأساة الانسانية العاملين والمسؤولين، في المنظمات الحقوقية وفرق الإغاثة الدولية المعنية بالمساعدة، التي بذلت أقصى ماتستطيع إلى حد العجز
منظمة الصليب الأحمر الدولي تعلن عن هول المأساة الإنسانية في محافظة إدلب الذي يفوق التصور، وتؤكد أن الوضع يزداد تدهوراً.
وعجزت المخيمات عن استقبال المزيد من النازحين، مما استدعى فتح المساجد والمدارس والسجون، للمساعدة في تأمين المأوى حماية للمدنيين الهاربين من العراء والصقيع. ولا يتعدى دور الأمم المتحدة عن انتقاد مجلس الأمن من قبل بعض مسؤوليها، ومطالبات بالتدخل وتقديم الدعم و الإغاثة.
وفي دوامة الأرقام الصادمة قال المسؤول الأممي للشؤون الإنسانية ومنسق شؤون الإغاثة الطارئة “مارك لوكوك” وفي جلسة لمجلس الأمن: إن ما لايقل عن 100مدني بينهم 35 طفلاً قتلوا بين الـ1 و16 من الشهر الجاري( شباط) بسبب الغارات الجوية والهجمات البرية شمال غرب سورية. وأضاف المسؤول الأممي أنه مابين 13-16 شباط سجل فرار 160 ألف شخص معظمهم من بلدتي الأتارب ودارة عزة، بعيداً عن الخطوط الأمامية المتقدمة.
المبعوث الأممي الخاص إلى سورية “غير بيدرسون” أكد أن روسيا ضالعة في العمليات الروسية التي تشنها قوات الأسد في إدلب، مشدداً على أن ما”يشغله” الآن هو المدنيون العالقون في إدلب ومناطق القتال في سورية والذين”يشعرون بأن لا أحد يهتم بمعاناتهم”
أهداف ” تأديبية”:
لن ندخل في معالجة السياسات الحالية التي تهيمن على مخططات القوى وجيوش النظم المنخرطة في الصراع، التي لاتفضي إلا إلى الحرب، وقد تعذرت كل السبل الديبلوماسية والسلمية، ما يدل على ضيق أفق الحلول.
لكن الأسوأ مما ترمي إليه روسيا وقواها على الأرض على سبيل المثال، نموذج غروزني* القائم على “الهندسة الاجتماعية” بإفراغ مدن وبلدات محافظة إدلب من البشر والحجر، وإعادة إعمارها وإسكانها. يتعزز هذا الميل وتصميم النظام السوري لتحقيقه، ماشهدته تلك المحافظة من مناهضة تاريخية لسياساته ونهجه منذ أوائل الثمانينات، وهو يُمَني النفس في حال استعادة إدلب إلى جغرافيته السياسية بإعادة هيكلة التركيب السكاني وفق قواعد جديدة في الولاء والإذعان السياسي مستعيناً بالحليف الروسي- هذه المرة- الذي لن يمانع بطبيعة الحال لتحقيق هذه المهمة مادام يضع نصب عينيه، أمن روسيا من “موقعة” إدلب. تبدو تلك الحماسة الروسية مع الإنكار والتكذيب الروسي للتقارير الأممية والإنسانية، إذ اعتبر رئيس المركز الروسي للمصالحة التابع لوزارة الدفاع جورافيلوف “أن المعلومات التي تتحدث عن تدفق مئات الألاف من المدنيين بسبب القتال غير صحيحة”. أضاف جورافيلوف أنه” لاتوجد مواد مصورة أوأشرطة فيديو يمكن التحقق منها، أو أي أدلة أخرى تدعم أنباء نزوح نحو مليون شخص من منطقة خفض التصعيد في إدلب إلى الحدود التركية- السورية”.
الحرب العبثية.. دوماً نحو المجهول:
“وما الحربُ إلا ماعَلِمْتمْ وذقتمُ
وماهُوَ عَنْهَا بالحديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبْعثُوها تَبْعثُوها ذَمِيْمَةً
وتَضْرُ إذا ضَريتموها فتضْرَم”
ربما تختصر تلك الأبيات الشعرية العابرة للزمن، للشاعر زهير بن أبي سلمى كل عبثية حربنا الجارية في ربوعنا، حرب عبثية، الجميع فيها خاسرون. كان بمقدور الأطراف المتقاتلة التي ضخت بأموالها في الحرب السورية أن تفتح ألف نافذة في جدران سورية المغلقة باستبداد نظامها، تنمية واستثمارا للموارد والبناء على ماتراكم من خبرات وطاقات اجتماعية جبارة عوضا عن خيارات الحرب العبثية وما جرته من ويلات.