جورج ميخائيل
ـ المقدمات التاريخية:
تتقدم مسيرة البشرية في التاريخ غير مكترثة بالنتائج المحتملة لتطورها الطبيعي أو لقفزاتها أو لثوراتها المثيرة للجدل، وهي بذلك تجد حلولا نسبية، لكنها تواجه مشكلات مستجدة!
إن انتقال البشرية من النظام الأمومي ومشاعة الأرض وغياب الملكية الخاصة وديانات الطبيعة وقواها والآلهة المتعددة إلى النظام الأبوي وملكية الأرض وتبوأ الملكية الخاصة المكان المقدس في العلاقات الاقتصادية وديانات السماء التوحيدية والإله الواحد، قد خلق الانقلاب البشري إلى نظام تحكّم وسيطرة وهيمنة أبوية شاملة للاقتصاد والمجتمع والدين والملكية والمعرفة!
وإذ سادت الهيمنة الأبوية متمظهر في سيادة ذكورية ابتدأت من الأسرة ولم تنته ِ في الدولة الحديثة ، بل شملت فضاءات الحياة ناشرة الصراعات الطبقية والحروب وغزوات الطبيعة ، فإن الاضطهاد الذكوري والاستبعاد والتهميش للنساء في أحد تجلياته هو الترجمة التاريخية لتلك الهيمنة الذكورية والتي بدورها ومع تقدم البشرية نحو أنظمة تحكم أوسع بالموارد والفضاء والبشر ، قد تسببت بحركات احتجاج وانتفاضات وثورات لتغيير المسار أو لتصحيح التوجهات الاقتصادية والاجتماعية المستجدة والغارقة في مستنقع العجز البنيوي عن تلبية التطلعات النهائية للبشرية.
ـ تعريف النسوية:
ولدت الحركات النسوية ضمن سياقات الصراع والتغيير في مراكز القوى من المشاعة إلى العبودية والإقطاع والرأسمالية، فكانت بالتعريف الحرية النسوية وبحسب) Webster) النظرية التي تنادي بمساواة الجنسين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتسعى كحركة سياسية إلى تحقيق حقوق المرأة واهتماماتها وإلى إزالة التمييز الجنسي الذي تعاني منه المرأة.
ـ الافتراق الاجتماعي /اللغوي والصدام المقدس:
إن الحركة النسوية وهي المنادي بالمساواة الجنسانية اصطدمت بالهيمنة الذكورية المباشرة، أي بالا مساواة الجنسانية التي تكاد أن تكون مقدسة دينيا وفلسفيا في النظام الأبوي الذي نسج بذكاء في عقله ورؤيته المعرفية موطد ذلك اقتصاديا واجتماعيا التفارق والتباعد بين جزأي الكائن الإنساني جاعلا من الذكر /الذات ومن الأنثى/الموضوع، وأضحت اللغة ذاتُ النظام الأبوي وخطابه، وبات الرجل المسيطر المهيمن المحارب المالك إضافة لصفاته الرجولية! مقابل المرأة الضعيفة، الولود، المسالمة المملوكة ، إضافة لصفاتها الأنثوية ! فالرجل هو الخطاب وهو التفسير وهو الكلام، بينما المرأة أقصيت نحو متلقية الخطاب والموءودة روحها ولغتها.
ـ زاوية الرؤية والحركات النسوية والصراع الاجتماعي:
دعمت الأديان ذلك الافتراق الاجتماعي / اللغوي بين الرجل / المرأة وكرسته في الخطاب وفي هيكل مقدس للرجال يتم منه حصرا توجيه الكلام وتلقي طلبات التفسير والاستشارات المعرفية والدينية. وبرر الكثير من الفلاسفة ذلك الافتراق الاجتماعي والاستبعاد النسوي. وحاول العلماء إضفاء الشرعية العلمية لتسويغ وتبرير الاضطهاد والاستبعاد للمرأة.
لكن المرأة ومن خلال النتاج الأخير للمجتمع الأبوي ألا وهو الرأسمالية التي نقلت المرأة من الأرض والمنزل إلى المدينة والمصنع انتظمت في جماعات عمالية ونسوية للنضال ضد الاستغلال ومن أجل الحقوق العادلة للمنتجين/ات.
وحين انطلقت الحركات النسوية في نضالاتها، لم تكن تملك رصيدها المعرفي والفلسفي المؤشر على رؤيتها للعالم الجديد، ولم تستطع الحركة النسوية إطلاق مفكريها ومنظريها إلا متأخرة، وككل معرفة وطريقة تفكير فإن سبب تأخر ظهوره يعود إلى أن كل زمن محكوم بزاوية رؤية معرفية منهجية للمشاكل والصراعات المطروحة المرتبطة بالفضاء المعرفي العام والمنظومة الدينية المحدودتين تاريخيا إلا فيما خلا بالاستشراف المعرفي الخلاق كما في بعض أفكار الثوريات والثوريين والطوباويين / والطوباويات!
ـ النسوية مولود جديد واعد إنسانيا
منذ الثورة الفرنسية وشعاراتها في المساواة والعدالة والإخاء التي افتتحت مسيرة جديدة للبشرية تلقت الحركة النسوية دفعة تاريخية لشق طريق جديد للبشرية نحو التحرر والانعتاق من النظام الأبوي، أي بدأت المرأة تخوض النضالات الإنسانية العابرة للجنس لتحقيق أهداف اقتصادية / اجتماعية / تتجاوز الكائن المذكر/ المؤنث كمعطى بيولوجي إلى فضاء الإنسان بجناحيه الأنثوي والذكوري كمعطى ما بعد بيولوجي.
إن في أفكار ماركس وأنجلس وروزا لوكسمبورغ وليس انتهاء بسيمون دوبوفوار ونوال السعداوي ما شكّل قاعدة بيانات للحركات النسوية التواقة إلى تفسير وتغيير العالم. فالحركة النسوية، هذا المولود الجديد والمتجدد على امتداد الأنظمة البشرية يواجه تحديات دينية وفلسفية ومعرفية يمكن السجال فيها ونقدها وتفكيك نصوصها وتفنيد نظرياتها الذكورية، لكن هذه التحديات يمكن أن تنقلب إلى حروب ونزاعات من أجل المساواة في الملكية والإرث والمشاركة السياسية والتمكن الاقتصادي.
وهذا ما لا تسعى إليه الحركة النسوية التي إذ تتطلع للمساواة والعدالة فإنها تهدف لإعادة النظر الشاملة بالملكية وبالإرث وبمراكز القرار وبمكانة المرأة وبأدوات سلمية سلسة غير عنيفة كغيرها من حركات الاحتجاج والثورات الدموية.
بمعنى آخر يسجل للحركات النسوية النزعة السلمية المتأصلة لتحقيق أهدافها وتوسيع المشاركة فيها وهذه ميزة إنسانية مستقبلية جذابة. كما أنه يُسجّل للحركات النسوية الممتدة شرقا وغربا وفي داخل بلادنا أنها تنتج وتنشر المعارف لتزويد النساء وتدريبهن على الأدوات السلمية الذكية لتوثيق الاضطهاد والاستبعاد (الجرائم والمخاوف)، ونشرها وعرضها واجتذاب القانونيين والقانونيات للمشاركة من أجل سن قوانين إنسانية عادلة تلغي كل لا مساواة وكل عنف قائم ضد النساء وكل استبعاد سياسي واقتصادي واجتماعي.
شخصية كونية تتمظهر!!!!!
هكذا ظهرت الحركات النسوية السلمية من أجل قرع جرس كفاية عنفا واستغلال كما في لبنان وفي بلادنا.
هذا ما يمهد لثورات اجتماعية في صلب نواتها النساء بأنشطتهن وبتأكيد أدوارهن وبطرائق تفكيرهن واستعادة لغتهن التي نفاها المجتمع الذكوري، وربما مسخها كلغة ذكورية ناطقة بلغة النساء.
إن شخصية كونية جديدة تتمظهر نتيجة لثورات التقانة والاتصالات وتتواجد في قلب الحركات الاجتماعية الحديثة معلنة افتتاح آفاق ثورية غير مسبوقة تشكل فيها النساء الحيوية المنتظرة للنضال الإنساني في سبيل عالم وأنظمة متحررة من الظلم والاضطهاد والاستعباد، وللفوز بكوكب خال من الحروب والعنف والتدمير البيئي وصالح للعيش المشترك.
النسوية في سيرتها ومالاتها ستكون تتويجا لنضالات البشرية وهي لا تريد انقلابا كالذي فعله الانقلاب الأبوي بل تريد للبشرية خلاصا إنسانيا، ومن دون طموح الحركة النسوية بتحقيق العيش المشترك والتكافل الإنساني الواعد ليس ثمة بشرية ناضجة تليق بهذا الكوكب.
المراجع:
النسوية مفاهيم وقضايا: مية الرحبي طبعة أولى 2014
المشاركة السياسية للمرأة السورية بين المتن والهامش: لمى قنوت طبعة أولى 2017
منشورات كفى عنف واستغلال لبنان 2016