Search
Close this search box.

من الاقتدار إلى العوَز وبعضهن إلى التسوّل

من الاقتدار إلى العوَز وبعضهن إلى التسوّل

آلاء عوض

اتخذت ريما وهي سيدة دمشقية في أواخر عقدها الخامس قرار بيع منزلها منذ عامين، ولكنها في أعماقها ما تزال متحسرة، وأحياناً مترددة ونادمة، لأن بيتها بالنسبة لها ليس مكاناً للسكن وحسب، بل هو ماضٍ وذاكرة ارتبطت بأفراحها وأحزانها، وارتبطت بزوجها أيضاً، المغيّب قسراً منذ أربعة أعوام ولا تعرف عنه شيئاً منذ اختفائه.

ريما وهي أم لشاب وفتاة في مقتبل عمريهما لم يعد بمقدورها تأمين متطلبات الشابين بعد وصولهما للمرحلة الجامعية، فلم يبقَ أمامها خيارات سوى بيع المنزل، فهي بعد اختفاء زوجها، باعت كل ما تملك من ذهب، مدخرات، وأدوات كهربائية ثمينة لتؤمن متطلبات أولادها الرئيسية مؤكدة أنهم ومنذ ذلك الحين اتبعوا -كعائلة- نظاماً تقشفياً قاسياً لم يسبق لهم أن اختبروه، فزوجها كان مهندساً، وأحوالهم الاقتصادية كانت ميسّرة، كما أنها كانت عملت معلمة في شبابها، لكن تضاعف مسؤولياتها المنزلية دفعها لترك عملها والتفرغ لبيتها وأبنائها.

تقول: “لم يكن قرار الاستغناء عن المنزل (في منطقة شرقي ركن الدين) سهلاً بالنسبة لي فأنا كبرت هنا، وأولادي أيضاً، اعتدنا على المنطقة وساكنيها، والجيران كانوا بالنسبة لنا بمثابة الأهل سيما بعد اختفاء زوجي. أولادي صاروا في الجامعة ولديهم متطلبات كثيرة. لن أفرط بتعليمهم”.

وتضيف: “في صيف العام 2015 عندما تعاظمت موجة لجوء السوريين إلى أوروبا اقترح عليّ معظم المقربون أن أبيع المنزل وأسافر بثمنه إلى هناك، لكنني رفضت، وسأرفض دائماً، لا أستطيع ترك دمشق، في كل شارع من شوارعها لي ذكرى وحكاية، وأريد أن يكبر أولادي هنا أيضاً، لن نترك دمشق للمعتدين والمحتلين، وإن أرغمتنا الظروف على ما نكره. سأبيع منزلي حالياً وعندما يتخرّج أولادي من جامعاتهم سيعملون، ويشترونه لي مرة أخرى”.

يدرس ابن ريما الكبير في كلية الطب، أما الفتاة فبدأت السنة الماضية دارستها في كلية الحقوق، وهما متفوقان منذ صغرهما، أما موقفهما من بيع المنزل، فهما رافضان بالمطلق لهذا القرار، يتمنيان أن تسمح لهما ريما بترك الجامعة والعمل لتأمين الحياة إلا أنها تأبى مؤكدة أن أقل ما يمكن أن تقدمه لوالدهما الغائب والذي من المحتمل أن يكون قد استشهد أن تلتزم بنهجه وحبّه للعلم”.

 إدخال الفرح “بقالب كاتو”

تتابع ريما حديثها بشيء من الحسرة “أحياناً نضجر من التقنين، ونقرر أنا وابنتي تحضيرَ قالباً من (الكيك) نُدخل به بعض الفرح إلى قلوبنا كأسرة منكوبة ويسكنها الحزن منذ أعوام، لكن نعود لنتراجع بعد حساب تكلفته، ففي الوقت الراهن تزيد تكاليف مقادير أي قالب حلوى مهما كان متواضعاً عن الـ 7000 ليرة سورية، وهو مبلغ يمكن استغلاله في حاجات أكثر إلحاحاً، في السابق كان إعداد قالب (الكاتو) لا يحتاج أكثر من 400 ليرة سورية.

كثير من المنظمات الدولية أصدرت تقاريراً فحواها أن معظم السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام يعيشون تحت خط الفقر. أكد بحث أجراه (المركز السوري لبحوث السياسات) بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت منتصف العام الحالي، أكد أن أكثر من 93 في المائة من السوريين يعيشون في حالة فقر وحرمان بينهم نحو 60 في المائة يعيشون في حالة فقر مدقع. تقول ريما: “نعتمد في قوتنا على البقوليات، والخضروات، وبهذه الطريقة نستطيع تحقيق بعض التوازن في نظامنا الغذائي، غير أن عمر الشباب يحتاج لغذاء متكامل وخاصة أثناء الدراسة، ناهيك عن الاحتياجات الكثيرة للجامعات التي يصعب الاقتصاد فيها”.

الطبقة المتوسطة والتحول إلى خط الفقر:

سيدة دمشقية أخرى (رهف) أكدت أنها كانت تعيش ظروفاً معاشية متوسطة قبل أن يُعتقل زوجها عامَ 2013، فزوجها كان يعمل في مجال التجارة (القطاع الخاص)، ويتعامل مع شركات مختصة بمجالات الاستيراد والتصدير، لكنها بعد اعتقاله بتهمة تنظيم المظاهرات والمشاركة فيها في الغوطة، تراجعت أحوالها كثيراً واضطرت لإنفاق كلّ مدخراتها لتعيل أبناءها الأربعة خلال عام، وهي حالياً تعيش على مساعدات بعض الأقارب والأصدقاء، قالت: “اللحم لا يدخل بيتنا إلا في الأعياد. عندما نحصل على قطعة من لحم الأضاحي، نعيش فرحاً لا يضاهيه فرح، علماً أن اللحم كان قليلاً على مائدتنا”.

وأضافت: “اضطررتُ ذات مرة للتسول لأُطعم أولادي، وكانت المرة الأولى والأخيرة، شعرتُ حينها بحرج وعجز يصعب أن تختزلهما الكلمات، لكن ضيق الحال دفعني لذلك. حالياً تأقلمنا مع الفقر والقلة وصار لدينا آليات للتعايش معهما بعيداً عن تكرار تجربة التسوّل، كأن أخزّن بعض الأطعمة القابلة للتجفيف، وأتعامل مع بقال بالدين، يعتبرني البعض أنني نسيت زوجي كوني لا أتطرّق لسيرته كثيراً، لكنني بواقعي الحالي ليس لديّ متسع من الوقت للتفكير إلا بقوتِ يومي”.

كثيرة هي العائلات التي تبدلت أحوالها في دمشق، والأكثر هي حالات كفاح مستمر ليس فقط لتأمين حدٍ أدنى من المعيشة، ولكن للاستمرار وتأمين مستقبل لائق للأبناء. وخلال كل هذا لا نستطيع إلا أن نرفع القبعات للسيدات المصرّات على تحقيق الأحلام وجعل المستقبل قريب المنال.

خاص بشبكة المرأة السورية

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »