بيان ريحان
بالكاد استطاعت أن تتوقف عن البكاء وهي جالسة على الرصيف تائهة لا تدرك ما تفعل.
أم عمر سيدة من الغوطة الشرقية، كانت في بداية الثورة قد أنجبت ولدها الثاني ولم تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً. مهنتها التدريس، فهي قد تخرجت من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، تعيش في منزلها المستقل مع زوجها وأولادها، لتتغير حياتها بشكل كامل بعد بدء الثورة.
مع بدء قصف النظام للغوطة الشرقية بقذائف الهاون، استشهد زوج أم عمر، وذلك عام 2012 مما اضطرها لمغادرة منزلها والسكن مع أهلها حيث أن الأمان أصبح مفقوداً بسبب المداهمات التي تقوم بها قوات ميليشيا الأسد.
وبدأت المشاكل تزداد مع انتقالها لمنزل أهلها حيث أصبح الجميع يساهم في تربية الأطفال، وأصبحت الأعباء الاجتماعية أكثر عليها وهي التي كانت مستقلة بشكل كامل مع زوجها، وازدادت عليها الضغوطات المادية والنفسية وخاصة بعد بدء حصار الغوطة، حيث أصبح تأمين رغيف الخبز معجزة.
أثقلت الهموم كاهلها لدرجة أصبحت تبدو وكأنها في الستين من عمرها.
عملت في التدريس بدوامين مختلفين، إضافة لقيامها بالمناوبات الليلية أحياناً في المراكز الطبية لتستطيع توفير أقل مقومات الحياة لأطفالها.
وفي تاريخ 3/12/2017 قصف النظام مدينة حمورية بالغوطة الشرقية مرتكباً مجزرة راح ضحيتها ما يقارب سبعة عشر شهيداً، أصيبت فيها أم عمر وهي خارجة من المدرسة التي تعمل بها بعد انتهاء الدوام، كانت اصابتها بشظايا اخترقت جسدها واضطرتها للبقاء شهرين طريحة الفراش، لتعود بعدها وتتابع مهامها التي تراكمت.
ومع اشتداد حملة النظام الهمجية على الغوطة الشرقية في نهاية عام 2017، فقدت أبيها بإحدى غارات الطيران بعد أن اشتدّ القصف وأصبح أكثر عنفاً. قصف لم تشهد مثله الغوطة، حيث اضطر الأهالي الغوطة للبقاء في الأقبية أكثر من شهرين.
بعد ذلك تقدّم النظام على الغوطة الشرقية، وبدأت رحلة الهرب من قبوٍ الى قبوٍ آخر حتى وصلت إلى مدينة زملكا، حيث تمَّ الاتفاق على تهجير أهالي الغوطة الشرقية، وهنا كان القرار الحاسم الذي أخذته أم عمر حيث قررت أن تصعد في الباصات وتغادر الغوطة (ارتبط تهجير السكان من مناطقهم في سوريا بالباصات الخضراء المخصصة للنقل العام في سوريا).
سألتها عن سبب اتخاذها قرار التهجير والخروج من الغوطة، فأجابتني: (كيف أبقى مع من قتلوا زوجي؟ بماذا أجيب أطفالي عندما يكبرون؟ لا أستطيع أن أنظر في وجوه عساكر النظام بعد خمس سنوات من الظلم والقصف والجوع التي عشناها. أريد لأطفالي حياة مستقرة بعيدة عن الحرب التي عشناها). ومن ثم ضحكت بشكل هستري وهي تقول يلعن الأسد يلي وصلنا لهون.
وصَلت إلى محافظة إدلب، وبقيت لشهر في مدينة معرة النعمان وهي تبحث عن مهرب مضمون إلى تركيا فقد عزمت على الرحيل.
برحلة في المجهول، فرص النجاة بها قليلة، وصلت أم عمر إلى مدينة أطمة في الشمال السوري لتتفاهم مع المهرب الذي تعهد بإيصالها لتركيا، حيث أخبرها بتعاليم الرحلة التي ستكون شاقة جداً مع طفليها الصغيرين، وعن احتمال أن يُقتلوا برصاص الجندرمة التركية على الحدود. أما عن كلفة الرحلة فستكون 1400 دولار أمريكي، وستبدأ من أطمة حيث سيتجمع الذين سيخرجون في هذه الرحلة في منزل المهرّب، وهناك تسع ساعات من المشي المتواصل ليعبروا الحدود ومن ثم الصعود بالسلم على الجدار العازل بين الحدود السورية التركية، حيث تنتظرهم هناك سيارة ستقلّهم مباشرة إلى إسطنبول.
ليس هناك أيّ إمكانية لأن تحمل معها أي شيء من الثياب لأطفالها، فالطريق طويلة، فقط عبوة ماء وبعض البسكويت للرحلة الشاقة.
كان في المجموعة شابٌّ حمل طفلها الصغير أثناء الرحلة، وهي تمسك بيد طفلها الآخر، وعندما اقتربوا من الجدار كانت دورية الجندرمة قد اقتربت وبدأت بإطلاق الرصاص بشكل عشوائي، في هذه اللحظة انبطحوا جميعا إلى الأرض مختفين بين الأشجار، عيون أطفالها غارقة بالدموع، ولكن يداها على أفواههم كي لا يصدروا أيّ صوت يكشف عن مكانهم.
بعد مضي نصف ساعة من إطلاق الرصاص العشوائي غادر الجندرمة. تفقد أعضاء المجموعة بعضهم البعض فكان الجميع بخير، انتظروا في أماكنهم ساعة أخرى ليتأكدوا من مغادرة الجندرمة بالكامل، ومن ثم تابعوا المسير وصعدوا الجدار. وصلت السيارة من على الجانب الآخر لتنطلق بهم لستة عشر ساعة دون التوقف لأخذ استراحة ليصلوا بعدها إلى إسطنبول. أما أم عمر فكانت خائرة القوى وفي حضنها طفليها النائمين.
وصلت إلى منزل أقارب زوجها، رحبوا بها وساعدوها في العثور على منزل للآجار، وبدأت بشراء بعض الأثاث المنزلي المستعمل لبيتها الجديد. حصلت على وظيفة بعد أسبوعين من وصولها لإسطنبول في مدرسة عربية.
قالت لي: (الراتب قليل، ولكنه يمكنني من شراء الأساسيات لي ولأطفالي) وذهبت إلى ولاية بورصة لاستصدار وثيقة الحماية المؤقتة الكملك من هناك حيث أن بلدية إسطنبول أوقفت منح الكملك للسوريين بها. (الكملك هو بمثابة وثيقة حماية للاجئين في تركيا)
تسعة أشهر من الحياة المستقرة عاشتها أم عمر في إسطنبول مع طفليها قامت بتسجيل ابنها الأكبر في المدرسة، أما الصغير ففي روضة الأطفال. وعادت الحياة من جديد لها.
حدثتني قائلة: (كل مشاعر الغربة والألم والحنين للوطن لم أشعر بها في إسطنبول، ليس كرهاً ببلدي ولكن كرهاً بالموت والحرب وعدم الاستقرار).
ولكن ذلك الاستقرار لم يدم طويلاً مع صدور قرار وزارة الداخلية التركية بترحيل الأجانب غير الحاملين لكملك ولاية إسطنبول منها، ذلك القرار الذي شمل أم عمر وطفليها وقضى على الاستقرار الذي عاشته. لم تدرك ماذا تفعل فالقرار واضح وحملات التوقيف والترحيل آت لا محالة.
اتصلت بها لأطمئن عنها ولكنها لم تجب، قلقت عليها فليس ذلك من عادتها، ذهبت إلى منزلها وطرقت الباب ففتح لي ابنها الأكبر، أخبرني أن أمه في حديقة الحيّ مع أخيه الصغير وأنها تركت هاتفها المحمول في المنزل. توجهت إلى الحديقة، فوجدتها جالسة على المقعد، اقتربت منها وسلمت عليها ولكنها بالكاد ردت التحية، حاولت إخراجها من حزنها ولكن عبثاً، وقفت ومن ثم مشت قليلاً وعادت لتجلس على الرصيف وتنفجر بالبكاء.
قالت لي جملة واحدة تختصر كل حياتها: (نحنا كنا لازم نموت بالغوطة ما لازم نضل عايشين، نحنا غلطنا أنو عشنا والكل بدو يانا نموت)!!!صبح أص
خاص بشبكة المرأة السورية