Search
Close this search box.

أربع سنوات في مشفى المواساة بدمشق

أربع سنوات في مشفى المواساة بدمشق

منى محمد

تسع سنوات والمرأة السورية – حسب كل الإحصائيات والتقديرات – هي الخاسر الأكبر في هذا الصراع الدائر فوق الأراضي السورية.

وفي دول اللجوء والنزوح، آلاف وملايين القصص أبطالها نساء عشنا مرارة هذه السنوات العجاف.

نزوح داخلي، هكذا تسمى حالة الهرب من الأماكن المشتعلة حرباً إلى تلك التي تُعتبر أقل دموية لدى كلا الطرفين. هم نازحون في بلدهم ولو كانت المسافة كيلومترات قليلة بين مدينة وأخرى.

هكذا تتحدث أمل من دير الزور، والتي نزحت إلى دمشق مع أطفالها وزوجها، حين تكون في حالة تشبه الغيبوبة، فهي في صحوها إما تبكي أو تدخن.

أمل سيدة سورية تخطت الخمسين من عمرها، وهي أم لطفلين. بصمت تعيد الكلمة مضيفة إليها الفعل الناقص (كانت) أما الآن فلا تملك سوى سيجارة وكأس شاي وسرير في المشفى.

مع بداية الحملة الثانية على محافظة دير الزور عام 2012 والتي تسببت بنزوح مئات الآلاف من المدينة باتجاهات مختلفة ومحافظات شتى، قررت أمل وزوجها وأطفالها الهرب إلى العاصمة دمشق، وهناك ضاقت بها الحياة وعائلتها فهجرها زوجها وأخذ أطفاله معه.

لم تجد أمل ما تعيش به في بيئة تعتبر النازحين، في أغلب الحالات، أشخاص لا ينتمون إلى هذه البلاد، وأن وصمة النزوح عار يلاحقهم حتى في بعض الأعمال ومن بعض أرباب العمل أيضاً.

اضطرّت أمل لأن تتسول في شوارع دمشق، تنام تحت السيارات أو في مداخل البنايات، الى أن دهست قدميها سيارة كانت تنام تحتها في شتاء ما (نسيت أمل تاريخه).

فكل ما تذكره أنها استفاقت في مشفى المواساة بالكاد تتحرك، ثم وبعد شفائها تقريباً من الكسور التي تسبب بها الحادث، لم تعد أمل قادرة على المشي، وهكذا لم تستطع الخروج من المشفى أيضاً.

تم نقلها لسرير وُضع في الممر الواصل بين الغرف، لا تفعل شيئاً سوى الزحف الى الحمام.

برائحةٍ نتنةٍ جداً وثيابٍ رثة لا تكاد تستر جسدها، مازالت أمل في مشفى المواساة منذ أكثر من أربع سنوات.

لا تفكر بشيء ولا تذكر شيء، إلا أذا أرادت أن تصحو من جنونها لتخبر من يثيره الفضول أنها من حي الموظفين في مدينة دير الزور، ولا تعرف أين هم أبنائها وزوجها الذي طلقها وهرب بهم.

مشفى المواساة:

يتحدث أحد الممرضين عن أمل: “جاءتنا مصابة بساقها، كانت وحدها ومازالت منذ أربع سنوات تقريباً، لم يأت أحد لزيارتها، بقيت هنا تُنقل من سرير إلى آخر حين يزدحم المكان بالمرضى إلى أن أصبحت جزء من المشفى. هي فعلياً جزء من أثاث المشفى اليوم، تنام في الممر العريض، يتفرج عليها المراجعون والزوار والمرضى حتى ألفوها، نادراً ما يتحدث إليها أحد”.

هي فقط الوهلة الأولى، ثم فضول لمعرفة قصتها ثم لا شيء آخر.

ويتابع أحد إداريي المشفى: “حاولنا جاهدين أن نجد لأمل مكاناً في أي دار للمسنين، تواصلت الإدارة مع مسؤولين في وزارة الصحة، لكي نخلي مسؤوليتنا من أمر بقائها في المشفى بهذه الطريقة الغريبة، وهذا الوقت الطويل.

أربع سنوات ليست بالأمر الهين، لكن أحداً لم يستجب لنا فأمل لا تحمل أي أوراق رسمية تثبتُ شخصيتها، ودور المسنين تزدحم بالنزلاء على حد تعبيرهم”.

وتقول زائرة في المشفى أن منظر أمل أثار فضولها وأنها اقتربت منها بالقدر الذي تستطيع لأن رائحتها منفّرة جداً ومنظرها أيضاً، فهي بلا أسنان تقريباً، نحيلة لدرجة مخيفة، وتُدخن داخل مشفى حكومي.

إنها تشبه المشفى في عدم نظافته، وانتشار الفوضى فيه، تصعد الصراصر أحياناً الى سريرها، لكنها لا تبالي بها.

وافقت أن تتحدث إليَّ حين علمت أني من دير الزور أيضاً، قالت لي أنها تشتهي الكليجة (نوع من حلوى العيد تشتهر به المحافظة)، ثم تحدثت عن أبنائها الذين لا تعرف عنهم شيئاً منذ طلقها زوجها وأخذهم.

وقالت لي أيضاً أنها من حي الموظفين في المحافظة، وأن أهلها جميعاً مازالوا في دير الزور لكنها لا تعرف عنهم شيئاً، ربما يكونون من الهاربين من دير الزور أيضاً. وتقول إنها بسبب عجزها عن الاستحمام وبسبب حمامات المشفى القذرة أصلاً، يبتعد الناس عنها ويهربون من رائحتها ومنظرها.

تحلم أمل بالمشي والخروج من المشفى والبحث عن أطفالها، تريد أن تراهم فقط، فهي لم تتحدث عن والدهم الذي هجرها بأي سوء. هي فقط تشتاق أبنائها الذين تبكيهم كلما تذكرت شيئاً عنهم.

ومازالت أمل تكمل سنتها الخامسة في تلك المشفى وعلى ذلك السرير المتسخ دون أي رعاية أو اهتمام حتى اليوم!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »