Search
Close this search box.

خبريات السوريات، وقهوة سادة

خبريات السوريات، وقهوة سادة

مزنة الزهوري

ضمن جلسة مسائية بين سيدات لهنّ تجارب مختلفة مع الحياة والزواج، الطلاق، وفاة الزوج، وعدم الارتباط، تتصاعد غمامة من الدخان، وتجفّ فناجين القهوة السادة. وتشتبك الآراء حتى نصل إلى ذات الأجوبة.
أنا أُصغي بصمت. عن ظلم الحماوات و أبنائهن الذين لايملكون من القرارات شيئاً. عن ظلم الأهالي بإرغام بناتهن على الزواج. عن حرمانهن من البقاء بنات دون زواج.
إحداهن حالياً عمرها 34 سنة، تزوجت منذ 4 أشهر من رجل يكبرها بـ 21 سنة، هو مُطلَّق، وهي مطلقة ولديها طفل من زوجها السابق. تنهدت خديجة ونظرت لي بدمعة تبرق بعينيها، ثمّ قالت “ليتَ الزمن يعود، وأعود بنت، بدون أمومة، بدون زواج، بدون شيء.”

بينما جارتها ديمة تُدّخن سيكارتها وتهزّ رأسها. هي أرملة منذ 13 سنة، لديها ثلاثة بنات وشاب في مقتبل العمر. تعاني من مرض السرطان، ولا أحد يعرف بذلك. تعمل ممرضة وتعود لتقوم بكافة واجبات المنزل، تذهب وحدها لتأخذ جرعة العلاج. ابنتها بجانبها تصغي معي لما تتحدث به السيدات من حولنا. فهي لم تتجاوز ال17 سنة، انخطبت منذ أيام وتتحضر لعرسها القريب. ماذا تحكي هذه النساء عن الرجال وكيف تتغير معاملتهم لاحقاً.!

صديقتي في الجامعة أخبرتني منذ فترة قصيرة عن حالة الاكتئاب والكره لمن حولها، التي تملّكتها عندما وضعت مولودتها الأولى بعمر الأربعة عشر، وهي لم تتجاوز الآن 22 سنة من عمرها. رَوت لي أنّها رفضت الزواج، و كلّ من حولها أقنعها بأهميته، بينما شغفها كان وحده العلم والمدرسة. “تجربة صعبة كتير كتير ما كنت بتخيل هيك..!”. ولكنها فيما بعد أصرّت على إكمال علمها في المنزل، شدّت زوجها ليؤمن بقرارها ويساندها، بينما المحيط كلّه مزعوج من الفكرة. قالت لي ” كنتُ أجاكرهم و اتحداهم، و ادرس”، صديقتي هذه اسمها صبا ولديها ثلاثة أطفال، وتدرس حالياً في قسم الترجمة.

هذا الواقع المنسوخ والمتكرر حولي بدوامة لاتنتهي بدايتها، يُغرق الأبناء كما أَغرق الأهالي.

الوضع في المخيم ذاته في البلاد الأوربية التي ملأها اللاجئون السوريون، ولا يختلف أبداً عن الداخل السوري المحاصر أو القابع تحت النيران والقصف.

عندما أزور المخيم المُلقّب بـ”مخيم الأرامل” لأنّ العديد من السيدات الأرامل يقطنّه. تحيط بي نظراتهن كما الرجال وزوجاتهن و أبنائهن في المخيم. الرجال في المخيم يحسدون الأرامل. تلعثم أحدهم وهو يخبرني أنّ الأرامل يحصلن على مساعدات وكفالات، بينما هو لا يستطيع العمل بسبب القوانين، ويتحسر على تأمين مستلزمات أطفاله. يتمنى أن يموت وتصبح زوجته أرملة ليعيش الأطفال ببعض الرفاهية.!

في صبحيّة المتّة أو عصريّة مع إبريق الشاي، أو فنجان قهوةْ مسائي، تلتّمُ النسوّة حول بعضهن، تطغى عادات السيدة المضيفة على الجلسة، بحسب المنطقة المنحدرة منها. ولكن التفاصيل الزخرفية لجمعتنا هذه لا تعني شيئاً، أمام الجامع الوحيد وهو العادات المجتمعية الطاغية على أبسط تفاصيل حياتهن. معظم الدعوات التي يدعين الله بها لأجلي، أن أُرزق بزوج يسعدني، أن يفرحن بي عمّا قريب، ويحضرن عرسي.. قصصهن مختلفة مع الأسى منذ طفولتهن حتى أمومتهن إلى ترملّهن أو فقدانهن لأبنائهن في سورية أو الشتات.. تجعلني أصمت وأبتسم ابتسامة باهتة شاحبة كآخر ورقة عنب في شتاء قارس..

في إحدى السهرات منذ شهر تقريباً، كنت أودّع الخالة أمّ أحمد التي عادت إلى منزلها في الغوطة الشرقية. استلمتني الحاجّة أختها، و أقسَمت ألاّ تتركني دون أن تؤمّن عليّ بعريس، وأنا أضحك بشدّة عندما تهزّ يدها بـ اتجاهي “مدري شو رح تنفعك الجامعة..”

بعد قليل خيّم الهدوء المفاجئ عندما ضيفتنا حفيدتها التي تصغرني ببضع سنوات الشاي، وابنتها تلعب وسطنا. عرفت أنّ زوجها معتقل، لا تملك أيّ شهادة أو حرفة لتعمل بها وتصرف على نفسها.

الجدّة عاشت مدللة عند زوجها أبو نبيل، ولازالت، ولكنّ حياة بناتها وحفيداتها لم تكن كذلك للأسف، وعلى الرغم من هذا؛ فهي مصرّة على إقناعي بأنّ الزواج جميل!

كثيراتٌ هنّ الأرامل من جيلي ينظرن إليّ بشكل غريب، و أنا بالمقابل أتأمل الحظّ الذي أنجبني لأبٍّ و أمٍّ متعلمين ومنفتحين، تركوا لنا حرية الاختيار فيما نريد، دعمانا بكلّ شيء، حتى الآن وبعد وفاة والدي، أمّي تؤكد أهميّة قرارهما في العلم والعمل والعيش كما نشاء. رغم أنّ كلّ مَن حولنا يردد “زوجيهن و ارتاحي من همهن بهالغربة.” أمي تحارب الكون لأجل عيوننا، وكلّ العيون تنظر لنجاحها عبر نجاحاتنا أنا و إخوتي. لم تكن أمي في يوم من الأيام عالة على المجتمع ولا على زوجها ولا على أبنائها. علمها و عملها وحكمتها أنارت دروبنا ودروبها، لننير دروب من حولنا بها أيضاً. أمي كانت معلّمة، وبعد دوامها في المدرسة كانت تعود لتكمل عملها في التجارة ببيع الألبسة في المنزل، تجهز الطبخة منذ المساء. أذكر تماماً كيف كان يوم العطلة هو الجمعة فقط، تغسل في جوّ جليدي، تتجمد يداها وهي تنشر على حبل الغسيل، تشطف دارنا الكبيرة كلّها، تُلمّع أحذيتنا، تسهر الليل لتقوم بتنشيف مراييل مدرستنا على المدفأة، ثم تقوم بكيّهم. عندما تنتهي من ذلك تمسك دفتر التحضير وكتب المدرسة، تجهز واجباتها للتلاميذ، تسهر الليل كلّه لنبدو بأبهى مظهر، و أرقى تفكير. قاومت كلّ من حولها بنجاحها و استمراريتها، وها هي الآن لازالت.

أتعجّب من صديقي الجامعي، عندما انقلبت تصرفاته بعدما خطب صديقتنا. كنّا نذهب لأنشطة التطوع سويّة، نتصور مع بعضنا. ليطلب الآن حذف جميع صورنا الجماعية على وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب غِيرته وحرصه عليها كما يبرر، وكأنّه من قبل لم يكن حريصاً، أو أنّنا نحن لا نحرص على صورنا وذواتنا!

يتصل بي صديقي محمد من بريطانيا، حصل على لجوء فيها السنة الماضية. بعد اعتقاله وتعذيبه في سجون النظام بسورية ثمّ في لبنان، بحجّة تشابه الأسماء. يسألني أن أبحث له عن عروس حيث يعيش. فاللاجئون هناك صاروا من أهل بريطانيا، ويطلبون مهراً لبناتهن بحدود العشرين ألف دولار أميركي ومايزيد. وكأنّ بناتهن مزاداً أو مخلوقات من ذهب. كما يصف لي.!

أمجد يعيش في ألمانيا، إنّه صديقي الآخر الذي يدرس هندسة ميكانيك بعد لجوئه إليها، يخبرني عن مأساة الشباب السوريين هناك، بينما الجميع في دول اللجوء المجاورة لسورية أو فيها، يحلم بالوصول إلى ذلك البلد. السوريون هناك يعيشون مللاً وروتيناً مخيفاً لمستقبلهم كما يروي لي. يأخذ شهيقاً ويقول “هنا فقدان كبير للإناث. معظم السوريين هنا شباب. حالات قليلة جداً من الزواج من ألمانيات. ومستحيل أن نقضي عمرنا بلا زواج. الراحة النفسية والاهتمام والرغبة الفطرية البشرية. تعلمين أنه هنا يوجد بنات كنَّ في سورية، الآن يتعلمنَّ ويرغبن بالارتباط. ولكن لأنه كبرنَ للثلاثين فقدن فرصهن هناك بالزواج. بينما هنا يخترن حسب رغبتهنَّ، والجميع يريدهنَّ.”

من الجهة الثانية، وصلت منذ يومين صديقتي نهلة إلى بيروت، قادمة من هناك بعد لجوئها مع زوجها و طفليها، ربّما ستنفصل عن زوجها بسبب تغيّر معاملته خلال هذه السنوات. تبكي بشدة لهذا التغيير. “يعاملني كأنه الملك و أنا النملة.” بأحرف هذه الجملة تختنق وتبتلع ريقها. بوصفها أنّ السوريين المتزوجين في أوربا، يخافون من أن تكبر رؤوس زوجاتهن بسبب القوانين ومعرفتهن بحقوقهن. فيبدأون مسبقاً بقمعهن. يخربون بيوتهم من الخشية التي يركضون وراءها. (خشية من أن تتغير النساء وتنحرف!.)

بينما أكتب هذه المقالة، أرسلت رنا على مجموعتنا في الواتس أب “أنا حبيت الشبكات السيسكو والويب. حابة اتوسع فيهن. بس شكلي ما حـ اتوسع الا بترباية الأطفال.” ويضحك الجميع. في الفصل الدراسي الماضي، أنجبت أول طفل لها. بسبب ضغط الجهة المانحة والدوام الجامعي، داومت بعد أيام من ولادتها. والدة زوجها (حماتها) تردد على مسمعها كلّ يوم من النكد والقهر، وتتهمها بتفضيل الجامعة على مولودها البكر. حتى أصيبت رنا بمرض في ثديها ولم تعد تستطع إرضاع صغيرها. كانت تداوم وتتوجع وتبكي. تأتي وعيونها منتفخة من عدم النوم، من مرضها ومرض صغيرها. ونفسيتها المنهكة بسبب الزواج.

بعد جلسة النقاش التي ذكرتها في بداية الحديث، اشتعل رأسي من التفكير بالكلام، والحوادث التي أمرّ بها بشكل يومي. سارعت لأشغل نفسي بجلي الكاسات والفناجين والتفكير بتحليل ما سمعته، فتحت اليوتيوب على فريد الأطرش و شادية. شردتُ فيما أرسله لي صديقي من ادلب، منذ يومين، عن وضع المتزوجات تحت قصف الطيران، وكيف يعنّف بعض الرجال في تلك المنطقة زوجاتهن جنسيّاً، وينهكوهن بعد كلّ غارة جويّة.. وكأنّ هذا التصرف هو الملجأ من البراميل و الصواريخ المتفجرة. تلك حكاية فظيعة متجردة لا تنفصل عن مخرجات حوار، فتحناه مع مجموعة شباب متزوجين في سنّ مبكرة في المخيمات هنا، كان مفادها عِناد أحدهم وتشبثه برأيه، تزوج غصباً عنه بأمر أهله. ولو أكملت زوجته تعليمها، لما حصل عليها. كلّ ذلك بسبب سنوات الحرب واللجوء. هو يخشى عليها من المشي في المخيم، ومن خروجها، تزحلق بحديثه معنا ويقول “إذا مشيت بيتطلّعوا عليها من فوق لتحت”، فصعقته بجوابي ” معناها مالازم فوت عالمخيم، بتاكلوني بنظراتكم.!” رغم أنني أعرف تماماً انّهم طيبين جداً، ولكن التفكير المجتمعي طاغٍ ومتمكن منهم حتى العظم.!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »