هبة العلي
أسماء فتاة لطالما كانت مليئة بالنشاط، تحب الحياة، ممتلئة بالإرادة ومحبة للغير ومساعدتهم. اليوم تغادر أهلها وعائلتها وصديقاتها ليس من أجل زواج ولا من أجل مال أو سوء معيشة، بل تغادرهم علّها تجد ملاذاً آمنا من كل شيء. من كوابيس اليقظة والمنام لعلها تجمّد ذكرياتها الحزينة والمؤلمة، لتقبع في زاوية حجرتها ولا تعاودها أو تراودها بالظهور خفيةً وعلناً، لعل ذلك المجتمع الريفي يقدر تضحيتها ويتراجع عن نظرته المليئة بالاتهام لها.
تبدأ قصة أسماء مع بداية الثورة السورية، عفوية ككل شيء جميل. وهي بما فطرت عليه واكتسبته من إباء رفضت إلا أن تتشارك مع أهل قريتها (التي رفضت ذكر اسمها، وهي قرية واعدة وواحدة من ريف درعا)، وأن تشهد هذا الواقع الجديد أو التاريخ الجديد كما تقول. فهي أحبت الحرية وهتفت لها بملئ حنجرتها وشاركت بالمسيرات واستمرت بالمشاركة حتى خرجت من بلدتها، وعلى أحد حواجز التفتيش التي قام النظام بنشرها على مفاصل المدن والبلدات تم توقيفها فجأة واعتقالها.
تقول أسماء: “بقيت هنالك فترة كانت من أصعب الأيام التي مررت بها بل لم أعهد مرارتها من قبل”. “مرت الأيام طويلة ولكن بفضل تدخل بعض المقربين خرجت لأرى الحياة من جديد فتابعت عملي كمدرسة لمادة اللغة العربية في إحدى المدارس التابعة لوزارة التربية، وأعطي دروساً خاصة في اللغة الفرنسية لأني حصلت على إجازة في اللغة العربية ومعهد في اللغة الفرنسية”.
“ومن هنا بدأت مسيرتي وعملي الفعلي فبدأت بالعمل ضمن بلدتي وبالتنسيق مع المقربين من اخوتي وأبناء عمومتي استطعنا مساعدة بعض المنشقين من الضباط وصف الضباط والعساكر المجندين ومن بين أولئك الضباط خالي. بقيت فترة على هذه الحال حتى اضطررت للخروج من بلدتي الى دمشق وعند أحد الحواجز تم التدقيق على بطاقتي الشخصية، وتم طلبي ففوجئت وارتعبت باعتباري فتاة ابنة الريف الحوراني المحافظ الذي يخاف على المرأة ويحافظ عليها بشدة لحمايتها”.
“على الفور قاموا بتعصيب عينيَّ، وتوجيه اللكمات والضربات مترافقة بكلماتٍ وألفاظ نابية سوقية”. تقول أسماء: “قضيت فترة في المكان الذي وصلت إليه، سمعت فيها الويلات وأنين المعتقلين، رأيتها كأنها الحرب النفسية للإدلاء باعترافي. بقيت على خوفي ورعبي عدة أيام حتى استدعيت لغرفة… وهنا كانت الطامة الكبرى فكل التهم الموجهة ليست بالسهلة والتي تمثلت بمساعدة الضباط والعناصر على الانشقاق، وانا لا أريد ذكر أي أسم من أسماءهم، وما لا أقدر على فعله أو التفكير بالقيام به.
وهنا خيم الظلام على كل شيء، على المكان والزمان وعلى نفسي. اتخذت قراري سريعاً بالرد: أنا لم أقم بأي شيء. أصررت على أقوالي، ومع كل إصرار يتم استخدام طرق مختلفة للتعذيب وصولاً للصعق بالكهرباء. كان التعذيب يصل حدّ الأغماء، ولم أغير موقفي. تم وضعي بعدها في زنزانة انفرادية مظلمة، لا شيء يبدد عتمتها وسكونها، الا أصوات القوارض وحركة الفئران التي تشاركني إياها، وهي ملاذي الوحيد من التعذيب رغم قساوتها”.
تقول أسماء: “تم استدعائي للتحقيق أكثر من مرة، وكلما استدعيت أصرّ أكثر من ذي قبل على رفضي. وفي كل مرة يتزايد التعذيب وتحدَّث أساليبه، ولكن في إحدى المرات كان التعذيب وحشياً بامتياز، فعند عودتي للزنزانة رأيت خيالات كثيرة أشار لهم ذلك الضابط بأن يتم التعامل معي بطريقتهم. هنا توقف كل شيء، لم يعد لدي أحاسيس أو مشاعر، كله تحول لحقد وكراهية استفقت عليها وكأنني في سبات، استفقت على كراهيتهم وعلى جسدي الممزق”.
تقول: “تعرضت لاغتصاب جماعي، لم أستطع التحمل، فكرت بالانتحار مراراً لكن لا توجد أي أداة تساعدني، أُغلقت الأبواب في وجهي، أُقفلت كافة الآمال لم يبق لي إلا باب الله أتوجه له بالدعاء لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً”.
تقول: “بقيت فترة على تلك الحال، ما مر معي غير قابل للنسيان. تم بعدها عدة محاولات لتسجيل اعترافي على نفسي بالقيام بمساعدة هؤلاء الضباط على الانشقاق، ولكن لم يبق شيء لأخسره فزاد إصراري على الرفض، تم بعد كل تلك المحاولات نقلي الى معتقل آخر مخصص للنساء”.
“توالت الأيام وأنا على حالتي تلك حتى أتى ذلك اليوم ونادى أحد العساكر اسم أسماء، ذهبت لمكتب التحقيق فطلب مني التوقيع على تعهد بعدم القيام بأعمال شغب وغيرها من تلك المصطلحات”. تقول: “خرجت لأرى النور من جديد”.
عمّت الفرحة بخروجي بيت أهلي وعائلتي وأتى القريب والبعيد مهنئاً مباركاً بسلامتي وخروجي”.
تقول: “استفاق أهلي كثيراً على صوت صراخي ووجدوا مني ما لم يكن سابقاً من عدم الألفة، وتغيّر في الطباع والخوف من كل شيء. ففي كل ليلة كانت تزورني تلك الخيالات المتوحشة لتنهش جسدي مع تلك الفئران اللعينة. خضعت لعلاج نفسي وبالرغم من ذلك استمرت تلك الأحلام والذكريات بمراودتي. أصبحت حياتي كوابيس ليل ونظرة اتهام بأنني أنا من جنيت على نفسي. وسادت تلك النظرة بين الجميع بعد أن علموا بقصتي”.
تقول: “انخرطت بعمل لا يقرب الشغب أو السياسة بشيء، فضلت العمل الاجتماعي والإنساني فعملت مع منظمات الاطفال وجمعيات المرأة حتى الصيف الماضي، حيث تمّت تسوية أوضاع الجميع وأنا من بينهم لأفاجأ بأني مطلوبة لعدة أفرع أمنية، وأنني مطلوبة لعدة جهات، وثمن ذلك مبلغ ليس بالقليل دفع عن طريق أحد أقاربي من المقربين من الضباط المسؤولين لأجد نفسي أخرج بطريقة غير شرعية إلى أقرب بلد مجاور لبنان لتبدأ حياتي مرحلة جديدة من العذاب والقهر.