منتهى شريف
“من هو بطلك؟”، سؤال بسيط، لم أكن اعلم انه سيأخذني خلف أسوار المفردات ويرمي بي خارج حدود اللغة. ما إن طرحته على الأطفال حتى دارت حولي زوبعة من الاجابات التي كسرت قيد البلاغة وأطلقت خبايا الخيال.
في البداية خيم الصمت عليهم, لكن نظراتهم بدأت تلمع بالدهشة بعد دقائق معدودة, ثم غرقوا في اللعبة مغمضي العينين، ثم مضوا بمتعةٍ باحثين عن أبطالهم في فضاء خيالهم الطفولي العذب.
راقبتهم بفرحٍ وهم يفكرون بالإجابات, كانت لحظات مدهشة، حاولت أن أسبرهم أعماقهم من خلال مراقبة وجوههم بأن أتنفس مسحة الجمال في براءتهم لتعيد لي بعض التوازن، نعم، كنت بحاجة لهذه اللعبة أكثر منهم بكثير.
بعد عدة دقائق انشغلوا بها في عوالمهم البعيدة, عادوا كلٍ إلى جلسته مؤكدين كامل جهوزيتهم للحديث عن أبطالهم العظماء، عدا رام الذي بقي مغمض العينين، كان يلهث وكأنه يركض خلف بطله, وعلى الرغم من ضحكات رفاقه واستهزائهم بحالته تلك إلا أنه لم يأبه بهم وبقي مغمض العينين يلهث إلى أن تغيرت ملامحه فجأة وأطلق صرختة قائلاً: “وجدته, وجدت بطلي”، ثم تنفس الصعداء وفتح عينيه وشكل باصابعه إشارة نصر.
أعلنت أن مهلة التفكير انتهت وأنه علينا أن نسمع الإجابات, فكانت سلمى أول من تحدثت عن بطلها العظيم:
بطلي “هو صانع المثلجات!”
علامات الدهشة التي رسمت على وجوه رفاقها سرعان ما تبخرت عندما أكملت حديثها:
“نعم وكيف لا يكون بطلي وهو من غير حياتي باكتشاف أطيب وألذ طعم بالنسبة لي؟”
عادت للجلوس بفخر مكانها بعد ان اكد الجميع رضاهم على ذلك البطل العظيم.
بدوره قال عمار: “أنا بطلي هوي بسبوسي (القط)، هو يستطيع أن يقفز من السطح بدون ما ينكسر، وممكن ينام في أي مكان دون أن يخاف”.
أما سامر الذي بدا واثقاً جداً من قراره فلقد أخبرنا أن بطلته هي أمه التي تتقن صنع اطيب الاطباق رغم عدم توفر شيء في المطبخ.
وعندما حان دور لميس الجميلة ذات الضفيرة الشقراء, صمت الجميع ليستمعوا لاسم بطلها بفضول، فبعضهم كان يظن أنه سيكون “بطلها”، فهي المدللة من قبل الجميع؛ وظائفها يكتبها سامر وسندويشتها يحضرها عدي، حتى في اللعب والسباقات، يسمح لها جميع أولئك الصبيان بالفوز بكل طيبة خاطر, والحقيقة أنا أيضاً كنت أظن أنها ستختارني كبطلة لها, فقد تتلمذت على يدي منذ الصغر، لكن المفاجأة طغت على وجوهنا جميعاً عندما قالت ببرود: “بطلي هو ظلي”، وحاولت أن تشرح عندما لاحظت دهشتنا: “أي ليش مستغربين خيالي يلازمني دائماً وهو أيضاً ينذرني في حال لاحقني أحدهم, أيضاً هو صامت ولا يزعجني بثرثراته، يلتصق بي ولا يتركني أبداً”.
أراد رفاقها ابداء استهجانهم لكن سوار قاطعتهم وتحدثت عن بطلها الذي اختارته: “بطلتي هي الريح، تلعب كما يحلو لها وتذهب إلى كل مكان وتفعل ما تشاء، لا أحد يستطيع ايقافها ولا تخاف من أي كان، تستطيع أن تصفع أي كان ولا يستطيع بالمقابل رد الصفعة لها، لا أحد يستطيع أن يمسك الريح”.
ركض ليث وصعد لأعلى المقعد وصاح قائلاً :”وأنا بطلي عصفور”.
تدخلت ليلى ضاحكة :”انا بطلي هو النوم فهو الوحيد الذي يغير لي مزاجي ويريحني”.
سندت رأسي الى الحائط مستغربة ,أمن الممكن ان يكون ابطال هؤلاء الاطفال مختلفين عن أبطال جيلنا ؟! وفكرت إن كان من الافضل أن أوقف اللعبة عند هذا الحد، لكن حماسهم المتزايد وعيونهم التي تنتظر أن يأتي دورهم للحديث جعلتني أتراجع وتمنيت في أعماقي أن من تبقى منهم سينقذني ويعيد اللعبة إلى المسار الذي رسمته مسيقاً.
طلبت من علا ان تتحدث وهي الفتاة المثالية في كل شيء فوقفت مزهوة وقالت: “أنا بطلي هو العنكبوت”.
نظرت لها نظرة استغراب, فتابعت بجدية :”أي العنكبوت لانه على الرغم من صغر حجمه إلا أنه يبني لنفسه بيتاً جميلاً في وقت قصير. هو أشطر من مهندسّ”. هنأها رفاقها على بطلها الصغير بتصفيق أيقظني من ذهولي. وعندما جاء دور همام أشار للنافذة وقال: “بطلتي هي الشمس لأنها لا تملّ ولا تتعب وبتضل تطلع رغم كل شي”.
وحين جاء دور رام أخيراً قال بتفاخر: “بطلي هو أنا … نعم انا، انا أفرح الجميع واجعلهم يضحكون، غداً عندما اكبر سوف أغير العالم”.
أعلنت انتهاء اللعبة وخرجت راكضة من الصالة وفي رأسي سؤال: “من هو بطلي أنا؟”، كنت أظن أن لدي أبطال كثر, حتى أني علقت صورهم بسذاجة على الجدار وأدمنت النظر اليهم كالبلهاء، أيعقل أنّي كنت طوال هذا العمر متوهمة؟
أسرعت إلى بيتي ونظرت ملياً في وجوههم ثم اقتربت منهم وأنزلت كل صورهم ومسحت الجدار الفارغ بكفي جيداً، وحدقت ملياً في مساحته الفارغة متسائلة من جديد: “من هو بطلي؟”
تخيلتهم يتعمشقون على ذاك الجدار، أيقنت أنهم أبطالي الحقيقين، فهم يجبرونني كل يوم على البحث في مفاهيمي، يتعربشون على جدار حياتي ويبعثرون ضجري ويعلموني كل مرة درساً جديداً.
أدركت أني بحاجة لأصابعهم الصغيرة، أتمسك كل صباح حتى تدلني على درب للنجاة.
خاص “شبكة المرأة السورية”