د. صباح ضميراوي
“كل ما بجتمع مع ناس، وبيحكوا عن أمهن بفكر للحظة وبقول: “قديش أمي مختلفة تماماً… أمي عنجد غير، الحكي بهيك مناسبة بيطلع جرايد بعرف، بس انت الوحيدة يلي بتعرفي شو أنت بالنسبة إلي، أنت أمي ورفيقتي وسندي بهالدنيا الصعبة،
الله يخليلي ياك فوق راسي..ولا يحرمني لهفتك علي، بحبك يا كل الدني… كل عام وانت وطني”.
هكذا كتبت رنا لأمها في عيد الأم.
كلما تذكرت رحاب معايدة ابنتها رنا لها تتساءل: “لماذا أنا غير؟”، أليست كل الأمهات حنونات ومضحيات؟ ربما قالت رنا هذا لأنها تدرك كم قدمت أمها لهم، وكم شقيت في رحلتها الطويلة معهم، كيف ابتعدت عن أبيها بهدوء دون أن تطالبه بشيء، مقابل أن تبتعد بأولادها عن عالم الجهل والتخلف الذي أرادهم فيه. لن تنسى كيف منعت أمها أبيها من تزويجها وهي طفلة وكيف هربت بهم إلى مدينة ثانية كي تعلمهم وتربيهم، لم تنس كيف كانت تلهث وراء عملها كي توفر لهم أفضل حياة. كانت الإدارة التي تسلمتها صعبة العلاقات والدوام، ولديها أربعة أطفال، لا تريد، بل لا تستطيع أن تتخلى عنهم وتعطيهم لأبيهم، و ووجدت الأم الحل، لماذا لا تأتي بمربية في فترة غيابها عن البيت لتعتني بهم وتنتظر قدومهم من المدرسة وتطعمهم إن اضطر عملها للمزيد من الوقت؟ وهكذا تكون قد ساعدت هذه المربية لتساهم بإعالة اسرتها، خاصة وأنها قد سمعت أن إحدى النساء التي ذكروهن لها، زوجها مقعد بسبب إصابة عمل وراتبه ضئيل جداً. وبهذه الحالة تستطيع ان تعمل وتعمل كي تؤمن لهم بيتا يليق بهم ويريحها من الإيجار الشهري الكبير والمرهق مادياً، ومن التنقل المستمر من بيت الى بيت وما يسببه لها من تعب وإرهاق، ويضطرها أحيانا للتغيب عن عملها، وتغيير مدارس ابناءها ولذا كان أول ماقامت هو أن تركت عملها والإدارة الهامة التي كانت تشغلها وقررت أن تبدأ بمشروع خاص لها، يؤمن لها ولأولادها الأربعة دخلاً أفضل. وهنا بدأت رحلتها مع القروض والديون لتبدأ بذلك رحلة جديدة من العذاب والعمل المضني والهموم، واستطاعت بعد عشر سنوات من عملها المضني أن تشتري بيتاً يأويها وأولادها سمته بيت العمر بقدر ما اهتمت به، فهو البيت التي ستتستقبل فيه أقرباءها وأصدقاءها وجيرانها، والأهم ستستقبل فيه من يطلبون يد بناتها ويجب أن يكون لائقاً بهم.
كبر الأولاد وبدأت تفكر بهم، ماذا سيتعلمون واي فرع سيختارون؟ وكانت تردد دائماً: “كبروا وكبر همهم”، وكم فرحت عندما نجحت رنا بالشهادة الثانوية ودخلت الجامعة، وكانت مصممة في قرارة نفسها أن تكمل تعليم البقية، ولكن كيف تستطيع ان تذهب لعملها بعد أن أصبحت الحواجز تملأ المدينة؟ حتى ذهاب رنا إلى الجامعة أصبح محفوفاً بالمخاطر، وذهاب أولادها إلى المدرسة أصبح متقطعاً وصعباً. الرصاص يلاحق المتظاهرين والخوف يلاحقها من خوفها على أولادها، تغيب الأولاد عن مدارسهم مراراً، وتغيبت رنا عن جامعتها، وعندما بدأ قصف الطيران لم تستطع الأم البقاء، وفكرت بالرحيل فمنذ أيام عدة، أودى صاروخ حارق خارق كما سموه بحياة ثلاثة من جيرانهم بلحظة واحدة، الأب الذي عندما سمع صوتاً غريباً في منتصف الليل، خرج على أثره إلى البلكون مسرعاً ليواجه الأب ذو الخمسين عاماً والإبنة ذات العشرين عاماً والحفيدة الجميلة والوحيدة لهم، بصاروخ هدم بلكونهم وأودى بحياتهم بلحظة واحدة. لم تستطع أن تبقى والخطر بدأ يحدق بهم، فحملت أولادها وابتعدت بهم إلى منطقة أهدأ نسبياً، وأكثر أماناً لها ولأولادها، الذين ضحت بكل شيء لتوفر لهم حياة لائقة تعليمياً واجتماعياً، ولتسمع بعد أيام من رحيلها بأن بيت العمر، وجني العمر وأحلام العمر، قد اصبح على الأرض. بكت بحرقة وذرفت الدموع الغزيرة في تلك الليلة، لكنها في قرارة نفسها كانت تقول لأولادها النائمين بقربها، سلامتكم بالدنيا وبمال الدنيا كلها. وها هي تهرب بهم الى البلد المجاور كلاجئة بعد رحلة نزوح من مدينة إلى أخرى. عاشت في قرى لم تكن تسمع بأسمائها عندما كانت بمدينتها حيث العمل والجاه وبيت العمر الجميل، وفي بلد اللجوء بدأت رحلة من نوع آخر، بلد لا تعرف لغته ولا عاداته ولا تعرف كيف تعمل فيه، فاضطرت وهي الجامعية المتفوقة للعمل في تنظيف البيوت لفترة، ثم بدأت بالبحث عن عمل أقل إرهاقاً لها، وهي التي أصبحت في عقدها الخامس من العمر، لينتهي بها المطاف، لتصبح مشرفة في إحدى مدارس اللاجئين الأيتام، حيث حصلت على غرفة متواضعة لها ولأولادها، مع تأمين وجبتي طعام لهم مع راتب جد ضئيل، وبدأ أولادها يتعلمون لغة البلد التي لجؤوا اليها، عسى أن يجدوا فرصة عمل لهم، عوضاً عن توصيل طلبات الزبائن عند بائع ظالم جائر، يشتري قوة عملهم بالنذر اليسير.
وبسبب أداءها الجيد، وتفانيها بالعمل، في أول عام لها، رقيت إلى أن تصبح معلمة في تلك المدرسة، ثم المسؤولة الأولى والأخيرة عن المدرسة حيث بدأت بتأمين الكوادر الجيدة والمخلصة بعملها، وراقبت أداءهم بكل شفافية، فكافئت المخلص بعمله وعاقبت وفصلت من لم يكن أداؤه بالمستوى المقبول، لتغدو مدرستها نموذجاً يحتذى به، وقدوة لكل المدارس الموجودة، حيث بدأت بتطوير المدرسة بالتجهيزات المدرسية اللائقة والنموذجية، وبإقامة النشاطات النوعية التي تدعم طلابها نفسياً وبإقامة دورات تدريبية للمدرسين رفعت من قدراتهم ومهاراتهم، مما زاد في دعم المانحين لها والذي انعكس بشكل إيجابي على الجميع، فالمعلمون زادت رواتبهم، والطلاب تأمنت لهم وجبة غذائية، إضافة لتأمين مستلزماتهم المدرسية، وأسرتها التي بدأت تخط طريقاً جديدة لها في العمل والتعليم. فعلاً رنا لم تكن مخطئة عندما قالت أمي غير، ليس بحنانها وعطفها وتضحيتها بل بإصرارها على العمل الذي يوصل الانسان إلى أعلى مراتب الشرف.
خاص “شبكة المرأة السورية”