نفيسة الصباغ
نبع الحنان، العطاء بلا حدود، الحب دون مقابل، السهر على راحة الجميع، الفناء من أجل الأسرة، التعب من أجل راحة الأبناء، تلك هي السمات التي سمعناها كثيراً عن الأم, احتفاء بالأمهات المُضَحيات. هي صورة نمطية مثالية لا وجود حقيقي لها وإلا لماذا تقتل بعض الأمهات أبنائهن؟ ولماذا تتخلى بعضهن عن الأبناء للزوج؟ لماذا يمكن أن تهرب امرأة تاركة بيتها وزوجها وأبناءها خلفها دون تفسير أو تمهيد؟
الحقيقة أن الأمهات بشر منهن الجيدات ومنهن السيئات بالمنطق البشري المعتاد, كما أن الصورة النمطية للمرأة التي تتماهي مع دورها كأم وتترك كل حياتها هي صورة غير واقعية بالمرة. الأدهى أنها تضغط على الأمهات وتتسبب في إحساسهن بالعجز أو الذنب.
تلك المعضلة التي تناولها فيلم “أمهات سيئات- Bad Moms” الذي أثبتت بطلته في النهاية أن الأمهات جميعا “سيئات” إذا ما تمت مقارنتهن بالنموذج الخيالي للأم النموذجية. حتى الأم التي بدت تطبيقا حياً للنموذج المثالي، اتضح أنها لم تفعل سوى إخفاء مشكلاتها. الفيلم كان أقرب إلى صرخة تقول إن الأمهات “بشر” سئمن من الصورة النمطية والإحساس بالذنب لأنهن غير قادرات على مجاراة النموذج الخيالي الذي يعتقد المجتمع أنه نموذج الأم.
هذا الصراع بين النموذج الخيالي وبين الواقع يجعل الأمهات منقسمات ويعانين مع أنفسهن قبل أي شيء، فمثلاً راندا البنا -مترجمة حاصلة على درجة الماجستير وحالياً ربة منزل- قالت عن هذا التناقض إنها تشعر بكونها “شايلة مسئولية فوق طاقتي وبحس اني عايزة اخرج في الشارع وأسيبهم وأهرب”.
هذا “الهروب” ليس في حقيقة الأمر هروباً من الأبناء ولا من حبنا لهم كأمهات، ولكن من الصورة النمطية المفروضة علينا، والتي لا يمكن لأي إنسان تحقيقها, وغير مطلوب في الواقع من أي شخص أن يفنى ليتواجد شخص آخر. الحقيقة أنه كلما تحققت ذات الأم وهويتها في مراحل عمرها المختلفة كلما تمكنت من أن تكون داعماً للآخرين في محيطها وأولهم الأبناء. تحويل الأمومة إلى صراع وجود إما أنا أو طفلي/طفلتي معادلة صفرية يخسر فيها الجميع. نحن بحاجة إلى أن نكون متحققين جميعاً لنسعد في حياتنا الصعبة.
وحول ما أطلقت عليه “الأمومة المفرطة” تقول الصحفية إيمان كمال إنها ضد هذا النوع من الأمومة “أو الصورة السائدة إني عشان بقيت أم يبقى تلقائي التضحيات تبدأ”. وجدت إيمان معادلتها الخاصة في علاقتها مع طفلتها بعيداً عن الصورة النمطية فتحكي: “انا هاعيش حياتي وتجربتي وبنتي هتعيش وليها حياتها وتجربتها، مبفكرش بمنطق إن لازم الطفل يكون متفوق وإن لازم تنضغط عشان تنجح، أنا كل همي انها تكون بني آدمة سعيدة”. لم تختفِ “نظرة الآخرين” والأحكام المُسبقة والجاهزة من ذهن إيمان، لكنها قررت تجاهلها لأنها ضد حصر نفسها في شخصية الأم وترفض أن تكون هويتها “أم فلان وعلان”.
هذا النسق النمطي للعلاقة بين الأم والأبناء كان بالنسبة لرحاب إبراهيم -كاتبة- يمكن التعبير عنه بأنه “مشاعر سلبية” لن تختفي بوجود الأبناء أو عدم وجودهم، فالمشاعر السلبية ستأتي سواء بسبب الأبناء أو لأي سبب آخر لأن المحفز الحقيقي لظهورها هو التركيبة الشخصية لصاحبة تلك المشاعر. وتقول رحاب: “اللي وصلت له بعد ما جربت مشاعر كتيرة هو إن الزمن مستحيل يرجع للخلف، فمثلاً مشاعر والتزامات شخص في الجامعة مش هي نفسها بعد ما يشتغل. دا بشكل إنساني عام، وينفع يتطبق ع الأمومة، البحث عن النفس القديمة شعور خادع جداً، ساعات بعرف افصل واقتطع وقت لنفسي ودا بيساعدني جداً”.
لمست رحاب أزمة أخرى للأمومة التي تختفي فيها الهوية والذات أحياناً، فتبدأ الأم في البحث عن ذاتها القديمة دون انتباه للزمن والتغيرات وما اختلف في شخصيتها، فتكون النتيجة مزيداً من التيه والاضطراب. هكذا أقرأ ما تحدثت به رحاب رداً على سؤالي، فالصورة النمطية التي تحث على إنكار الذات واختزالها في دور الأمومة فقط تنتهي بالنساء إلى كائنات مشوهة حين يكبر الأبناء تكون حياتها بالكامل خلفها والأبناء والبنات ينطلقون نحو حيواتهم/هن تاركينها في فراغ الوحدة واللاشيء, فقط لأنها صدقت الأسطورة الكاذبة ونسيت الجوانب الأخرى والأدوار الأخرى من ذاتها وهويتها الفردية.
أم أخرى من صديقاتي قررت خلق معادلتها الشخصية والبحث عن بعض البراح لذاتها كي يمكنها استكمال دورها كأم دون الدخول في صراع وجود بين هوية الأم وهوية الطفل. أميرة سعد تعترف بمشاعرها السلبية وتطلب وقتاً خالياً لنفسها وتعلن للأبناء ولأمها ولزوجها أن هذا حقها، حتى مع الأبناء تقرب لهم حقها في الابتعاد قليلاً بأخذهم نموذجاً وكيف يبتعدون للعب مع أصدقائهم أو للدراسة لأنهم سيستفيدون ويسعدون في هذا الوقت وبالتالي هي أيضاً لها نفس الحق أن تبتعد قليلاً لتفعل شيئاً يبقيها سعيدة ويفيدها.
بالطبع لا تستوعب كل الأسر هذا التغير، في شريحة مختلفة من الأمهات قررت نسف النسق السابق وهو ما تعاني منه سالي كامل، فأمها تطالبها أن تكون أماً “نموذجية” وهي ترفض وتحتمل النقاشات الحادة بين فترة وأخرى وتقدم نموذجها الخاص كأم دون إحساس بالذنب أو كما قالت: “الشعور بالذنب ده راح خالص”.
الشاعرة أميمة عبد الشافي تعبر عن المأزق شعراً فتقول:
*الأمومة فعل انتقامي
سأعتذر لاحقا عن هذه الجملة
لكنني أطلب منكم أن تدعوني أقولها الآن
لمرة واحدة وأخيرة
نحن نصبح أمهات لننتقم من ذواتنا
ربما هناك العديد من الأسباب الأخرى، طبعاً
لكننا بشكل ما نفلت وجعاً خفياً يجعل لحظات الحب والسعادة مشوبة دائماً بهاجس مؤلم
أنا أكره الألم وأحب طفلي، لكنه لا يستطيع محو الألم
تلك الخرافة الشائعة عن البسمة التي تمسح الوجع غير حقيقية بالمناسبة!
لولدي بسمة تفتح أبواب العالم، وله حضور يخلق الحياة كمعجزات الأنبياء
لكنه لا يخفي الألم، يجعلني أتحمله ربما، أخفيه لأنني لا أريد إيذاءه غالباً؛ لكن مواطن الوجع تئن، بصوت أو بصمت
الأمومة تحمل الألم في باطنها الذي نريد أن ننكره دائماً
ألم الوجود، ألم التخلي عن الذات، ألم الإحساس بالذنب، ألم لكل فعل، وأيضاً ألم ممتد من أوجاع الصغار!
أنا أكره الألم، فلم لا يتوقف العالم عن مطالبتنا بالمزيد من التحمل؟
لم يتضافر الجميع لخلق الصور التي تجعلنا سيئات إذا ما تكلمنا عن مشاعرنا بصدق؟
ولم يكون الألم مضاعفا لأن هناك آخرين تجرحهم صراحتنا؟
عندما يكف العالم عن رؤيتنا كأمهات نالت ما يكفيها من السعادة بالأمومة فقط، ويدرك أن الأمومة استثمار لحيوات جديدة تنمو على جسد حياة الأم
عندها ربما يتضاءل الألم، ربما تنجو الأمهات!
خاص “شبكة المرأة السورية”
تصوير: عابد الحسين