Search
Close this search box.

ماذا لو؟

ماذا لو؟

منتهى شريف

نفضَ عن ثيابهِ ما علقَ فيها من تُراب, ومشى بهدوء ليِجلس بعتمة الزاوية الباردة مُشاركاً العنكبوت مساحةَ وجوده, تاركاً لرفاقهِ في غرفة الحجز لملمةَ مواجِعِهم، وعادت عيناهُ لتتعلق َبفتحةِ السقفِ الضيقة، سامحاً لخياله أن يستحضر تلك الأمكنة التي عاش فيها والتي لازالت تمتد شاسعة في ذاكرته.

رآها من بعيد تركض بين سنابل القمحِ, وتلوِّح بضفيرتها السوداء ضاحكة، لكن سرعان  ما اختلط  صَوتُ ضحِكها بالبكاء, وتحول لأنينً عميقٍ يَستصرخَه!

صحا من كابوسهِ مخنوقاً, فتكوَّرَ على نفسهِ, والخيبةُ تحاصره.  حاولَ أن يُمسكَ بتلابيبِ ذاكرتِه، وان يعود لتذكر الأماكن، الأشخاص، الأسماء، الأبواب التي حمل مفاتيحها والعتبات التي حفظت خطواته، لكنها جميعاً تاهت منه, وحدها عينا سارة الخائفة ما كان يؤجج هلَعه وما يتحكم بخيط ذاكرته الطري.

عادَ لمراقبةِ العنكبوت وهوَ يَنسج خيوطَ بيتهِ, فكَّرَ بالمساحاتِ وانعكاسِها على حياةِ البشر؛  ماذا لو أُتيح  لكل إنسان فضاء مريح، بيت، غرفة أو حتى كنبة مريحة؟

صدى صوتِ الحارسِ يملأ أُذنيه: “يلاّ احشروا حالكن هون”.

فكر بالزمن الذي أمضاهُ من عُمرهِ مَحشوراً بدونِ فَضاءٍ خاص. سارة كانت الوحيدة التي يستطيع أن يَفردَ جناحيهِ بوجودها, فيتحول لِطائرٍ بري حرٍّ معها، سارة هي فضاؤه الخاص.

تذكر يومَ لاقته في البُستان آخر مرة؛ كان يقطّع الحطب, ويلملم ما سَقط على الأرضِ بعد تقليم شجرات الزيتون، اجتازت سهول القرية قبل شروقِ الشَّمس راكضةً إليه دون أن  تفكر بالعواقب, تذكر بريقَ عينيها عندما اقتربت, ومدت يديها مُعانقته، تذكر كيف تسارعت دقات قلبه وكيف غرقا معاً في عالم خاص بكليهما، وفي لحظتهما تلك سمعا دويَّ الانفجار في القريةِ وشاهدا غمامة رمادية بَعثرت ترتيبَ المكان حتى تلاشى وضوحُ  الطريق.

توقف الزمن عنده هناك في تلك اللحظة، ماذا حصل بعدها ؟ كيف وصلَ إلى هنا مع هؤلاء الوحوش ؟ كم أمضى من الوقت معهم في حفرِ القبور؟

كان يحاول استحضار وترتيب ما بقي عالقا في ذاكرته دون جدوى، فهو طوال هذ المدة ومع كل قبرٍ يحفرَهُ كان يَدفنُ جزءً من ذاكرته وروحهِ, لكن الآن وفي هذه الغرفة المخصصة لحجزهم كان العنكبوت يحفِّزُه على التذكر من جديد ويساعده على لملمة  تفاصيلهِ خيوط ذاكرته المبعثرة.

تذكر كلماتها عند وعدهِ لها ببناء بيتهما المستقبلي بعد انتهاء الحرب.استغربها حينها لكنه فهمها لاحقاً: “الحرب مثل الحب تماماً, ولكن ليس  لتشابه الحروف بل لتشابه الحتوف”!

عاد في ذاكرته الى تلك اللحظة حين رآهم يدخلون القرية كسرب جراد، تذكر ملامحها الخائفة وتذكر خوفه عليها وعدم استطاعته التفكير بطريقة لتهريبها منهم. وما ان بدأ باستحضار ما حصل حتى جاء صوت السجان

يأمرهم  بتجهيز أنفُسِهم للحفرِ, فأوقفَ شريطَ ذكرياته مجدداً.

ودَّعَ العَنكبوت بابتسامة امتنان وصعد مع رفاقه إلى صندوقِ السيارة  الحديديِّ المغلق.

تمايلت السيارة بأجسادهم المكتظة وبدأت تتأرجح متخبطة, وصوت محركها يزفر بشراسة.

قال أبو سومر ساخراً  :”معقول  أن نموت في هذا الصندوق”؟

ردّ جاره ضاحكاً: “نحن ميّتون بكل الأحوال”.

ازداد اهتزاز السيارة ، فصاحوا بأصوات مرعوبة :”افتحوا لنا الباب!”.

أتاهم  صوت بارد  من عمق الصندوق: “واذا طلعنا وين بدنا نروح وشو رح يصير فينا؟”.

بقي سؤاله عالقاً على ألسنتهم جميعاً؟

ماذا لو أُتيح لهم الهروب؟ أين المفر من الرصاص والخوف المتربص في الخارج؟

لحظاتٍ وانقلبت السيارة وتدحرجت بهم مستقرة  في أسفل الوعر، اشتعلت الأجساد العالقة داخلها بعد انفجارها بقليل.

كان من المحظوظين الذين استطاعوا الخروج من صندوق السيارة  بعد أن رمى بنفسه من الباب الذي كُسر عند أول تحطم ، لكنه ما أن ادرك حقيقة نجاته حتى صرخ بصوت عالٍ وبدأ يركض كالمجنون في دائرة مغلقة، فصوت سارة الحزين عاد  يُناديه: “طالت جدائلي كثيراً ولا مشط هنا!”.

تلك اللحظة تذكر كل شيء؛  يدا سارة المرتجفة وخوفها وهي تتدلى من الحبل إلى داخل البئر الحجري القديم في الوعر، حيث كانت الفكرة الوحيدة التي خطرت له لتهريبها منهم، وعده لها أنه سيخرجها بعد أن يذهبوا، استغرابها للفكرة وترددها ثم قبولها لثقتها به، صوت الرصاص الذي بدأ يقترب أكثر فأكثر منهما، ارتعاش يديه وهو يساعدها على النزول، طلبه منها أن لا تتحرك وأن لا تصدر أي صوت حتى لا يعرفوا مكانها، ثم الحجر البازلتي الثقيل الذي غطى به فتحة البئر!

تذكر كيف أنهى مهمته تلك وعاد لتقطيع الحطب مظهراً عدم الاكتراث، لكن ما إن وصلوا بسياراتهم حتى نزلوا مدججين بالسلاح، سألوه بعض الأسئلة, فأجابهم وكان كلُّ همِّه أن يُزيح أنظارهُم عن ذلك البئر، لكن إرضائهم كان أمراً  صعباً.

كان يشعر بأنفاسها تكاد تصرخ وهي تسمعهم يضربونه بأعقاب البنادق ويقتادونهُ بوحشية ليضعوه في صندوق السيارة قائلين: “سوف يفيدنا في الحفر”.

تذكر جُبران  كل شيء وهو يَركض تجاه اللاشيء، كادت أنفاسه  تتوقف وهو يتخيل ما حلّ بسارة، هرعَ مذعوراً تسابق أقدامه أنفاسه وقد قرر البحث عن البئر وأسئلةً كثيرةً تُحاصِره: “ماذا لو تركتُ يومَها لسارة القرار؟ ماذا لو أنها صرخت حينها؟ ماذا لو لم أكن محكوماً بين اختيار البقاء في السجن أو رفع الغطاء عن البئر؟”.

ولا يزال يركض في نفس الدائرة غير البعيدة عن صندوق السيارة المتفحم، محاصراً بالسؤال: “ماذا لو؟”.

وكلما اقتربت أقدامه من الخروج من سجنها يعود إليه خوفاً من رفع ذلك الحجر البازلتي الثقيل.

اللوحة للفنان: علي سليمان

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »