منتهى شريف
تمايلت مترنِّحة، وأعادت بيدها العاجية ترتيبَ غطاء رأسها المتهاوي محاولة أن تستعيد توازنها أمام أعين النساء المسلطة عليها.
في ذلك المكان شبه الدائري المعدِّ للعزاء، كان الحزن جاهزاً ليسكنه ويصبح أهم مكوناته وكأنَّ البنَّاء قام بعجن فكرة الموت والخوف مع الاسمنت والماء عند بنائه، فغلفت الوحشة الحجارة والأعمدة، ونجحت الريح الموسمية برمي الهائل من التراب على مناور السقوف العالية، بعد أن رسمت المياه المتسربة من الأعلى أخاديد باهتة على الجدران فبدت مثل لوحة أشباح كئيبة، وقد عكس سواد الثياب كآبته على وجوه النساء، ولولا أغطية الرؤوس البيضاء لما رأيت في تلك اللوحة السريالية الحية سوى الظلام.
هو الموت بطل أيامهم الباردة منذ سبع سنوات، وما من منافس له، فقد نجح بجعل الجميع يتقنون الحزن كتفصيل يومي في حياتهم المليئة بالخيبات.
تناهى لمسامعها صوت نواح امرأة ستينية يشوبه النشاز، غلبت عليه ثرثرة نساء لم ينجح بإسكاتهن شيء، فالجميع تفاجأ بخبر موت أبو غسان، وهو الرجل غريب الأطوار الذي أثار موته زوبعة من التساؤلات. بدأت الذكريات تحوم برأس أم غسان محاولةً استدعاء ذكرياتها الجميلة عن الرجل. بدأت تقلب صفحات تاريخها معه صفحةً صفحة، فهي كباقي النساء اللواتي يتقنَّ التمثيل ليكملن لعبة الحياة الزوجية المثلى حتى يصبح الكذب مكياجاً صباحياً يغطي تقاسيم وجوههن، لكنها تعبت حد الإعياء، ولم يعد بإمكانها أن تخبأ أكثر، فحياتها تغيرت مع زوجها منذ أن أُختطف في بداية الحرب لمدة شهرين وعاد لقاء مبلغ كبير من المال كلفهم بيع كل ما كانوا يملكونه.
منذ لحظة عودته تغير الرجل وصار لغزاً يصعب حله، فبات يكره كل شيء حوله، ويستمتع بتعذيبها.
كان ملجأها الوحيد في يومياتها معه دفتر صغير، كتبت عليه كامل الحقيقة وباتت تلجأ إليه لتفرغ عليه حمولة أثقلت كاهلها وأتعبت روحها.
هو لم يكن أصلاً يهتم لأمرها ولما تكتبه، فقد كان يمضي أغلب نهاره نائماً، ويهرب لشرب الخمر ليلاً لينسى عجزه، و كانت كل يوم تزداد تصرفاته غرابة. لكن تلك الليلة كانت صادمة بالنسبة لها؛ فقد رأته يتسلل خارج المنزل بشكل مريب، ثم راقبته من بعيد وهو يقترب من الشقة في البناء المجاور، كان قد تم استخدامها من قبل إحدى الجمعيات الخيرية كمستودع للمعونات والمواد الغذائية. لم تصدق عينيها وهي تراه يمرر خرطوم الماء من إحدى نوافذ المستودع، وبكل برود يفتح صنبور الماء!
ركضت باتجاهه مسرعة، وحاولت أن تسحب الخرطوم، لكنه نجح بإسكاتها وأعادها إلى غرفتها وأقفل عليها الباب حتى انتهى من مهمته. وحدها تقاسيم وجهه التي دلت على عدم الاتزان تلك اللحظة ما منعها من الإبلاغ عنه.
نبهتها أصوات النساء الباكية، فهزت رأسها محاولة أن تنفض عنها تلك الذكريات المّرة، رفعت رأسها، فرأتها تقترب! دخلت أم زوجها المتوفي من الباب الكبير بمساعدة عكازها ووقفت ترمقها من البعيد بنظرات كراهية.
اتجهت أنظار الحاضرات إلى المرأة العجوز التي سرعان ما تابعت المشي حتى وصلت إلى صدر صالة العزاء وجلست بجانبها.
ارتجفت ام غسان عندما رأته بيدها، دفترها الصغير ذاته.
بدأ شبحه يطوف حولها ويحاول أن يتحدث معها، يضحك ساخراً منها، ويقفز وهو يحمل كأسه ويقهقه بأعلى صوته. عادت إليها ذكريات السنوات الأخيرة فقد كانت تراه كل ليلة يزداد وحشية فينتقم من كل شيء حوله، حتى الكلاب لم تنجو منه فقد وضع السم لها بالطعام، ليتخلص من صوتها الذي يضايقه ليلاً.
توقفت (الندابة) فجأة معلنة انتهاء محفل العزاء، فاقتربت لتودع جسد زوجها المسجى، لكن أمه العجوز فجأة رفعت عكازها بوجهها، مشيرة لها أن تبقى بعيدة!
وقفت مكانها متنهدة، فرغم أنها كثيراً ما تمنت له الموت لكنها لم تصدق انه سيلاقي حتفه بسببها، لقد تمنت موته عندما كان يضربها بوحشية وتمنت موته عندما رأته يضحك على خبر احتراق بيت جيرانهم الوافدين، وتمنت قتله عندما علمت أن ثلاث عائلات تسممت إثر تناول تلك المعونات التي وزعت على المحتاجين، رغم معرفة الجميع أنها لم تعد صالحة. تمنت لو تقتله بيدها عندما تأكدت أن حفيدها ذو الثلاث سنوات كاد يشارك كلبه بذلك الطعام المسموم، وفي الحقيقة كانت تتمنى له الموت لأنها لم تعد تعرفه. بات رجلاً غريباً ومرعباً ولم تعلم إنها ستفعل ذلك!
كان يبحث ليلتها بخزانتها عن نقود ليجلب ما أدمنه من مشروب عندما وقع ذلك الدفتر الصغير بين يديه، فتحه ليفتش بين صفحاته عن أوراق نقدية فلاحت أمامه تلك الجملة كرصاصة: “الرجل الذي أحببته … تحول إلى وحش!”
وبدأ يقرأ ما كُتب عنه.
في ذلك الصباح كان لا يزال راكعاً فوق الدفتر الذي اخبره كامل حقيقته، لكن عقله لم يتحملها.
كانت أمه العجوز أول من شاهد قاتل ولًدها، فحملت الدفتر الصغير وأخفته.
تنهدت وهي تراقبهم يحملون جنازة زوجها بعيداً فصرخت منادية ابنها غسان وعندما اقترب أشارت للدفتر بيد الجدة، وطلبت منه أن يدفنه مع جسد والده الميت.
لا تزال ترى شبحه يقفز راكضاً نحوها كل ليلة، ويفزعها صراخه منادياً لها، وراجياً أن تزيح عن كاهله عبء تلك الكلمات، ولا يزال يستحلفها بحبهما القديم أن تكتب عنه شيئاً آخر.
اللوحة للفنان “وليد نظامي”
خاص “شبكة المرأة السورية”