رنا مبارك
لم تتجاوز زيارتي الأخيرة لهذا المخيم الواقع في سهل البقاع بلبنان، العشرين يوماً، لاحظتُ كلّ المؤشرات، التي تزيد ضغطها على اللاجئين من أقراني، والقاطنين هنا، لكنّني لم أتخيل أنّني سأعود وأجد الأمور أفظع.
هذا المخيم، يُدعى مخيم الأرامل، نظراً لوجود عشرين خيمة تعيش فيهن الأرامل وأطفالهن، من بين مئة خيمة. يتربّع بين الحقول التي ترويها مياه الصرف الصحي، بعيداً عن وسط البلدة.
منذ شهرين بدأت البلديات في لبنان بتوزيع أوراق الإحصاء على اللاجئين، لتعرف عنهم معلومات أكثر، من خلال الأسئلة المندرجة في الورقة. عن مناطقهم المنحدرين منها، أوضاعها الأمنية، قدرتهم على العودة إلى سورية، نوع إقامتهم هنا… وما إلى هنالك من استفسارات.
أيضاً قامت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بإرسال الرسائل النصيّة لأكثر من ثمانية آلاف عائلة، تخبرهم بفصلهم من المساعدات الغذائية أو المادية التي يتلقونها.
بالتزامن مع هذا، تكثّف الترويج لـفتح مراكز الأمن العام، والحثّ على عودة اللاجئين إلى سورية.
في زيارتي الماضية لهذا المخيم، التمّت الأرامل من حولي، ليسهرن معي، على الرغم من كلّ المشاكل التي تحيط بهنّ وتكتم على أنفاسهن، يحاولن التخفيف عن بعضهن بالإجتماع والتفكير سويةً، شرب الشاي وتحليلهن القضايا معاً.
تركّزت أحاديث السهرة، على مرض إحداهن والخيار الوحيد أمامها الذهاب إلى سورية لعلاج نفسها؛ فالدواء هنا غالي الثمن، والمشافي تكاليفها باهظة، أما عن الذهاب للطبيب ودفع الكشفية، فلم يعد المستوصف القريب بالمجان، لقد تمّ استبدال جميع العاملين فيه كـأطباء سوريين متطوعين، بقرار من وزارة الصحة، إلى لبنانين، وتمّ رفع تسعيرة الدخول، كما أنّهن لا يجدن الطبيب اللبناني يشخّص المرض بشكل سليم.
خمسة منهن فصلتهنّ المفوضية من المساعدات، أيضاً الكفيل الذي قام بمساعدتهن خلال شهور سابقة، قد رفع يده عن ذلك.
يفكرن سويةً ماذا سيفعلن بمدارس بناتهن؟
لقد استقبلت المدرسة المجاورة لمخيمهن، والتابعة لإحدى المنظمات المحلية أطفالهن خلال الأعوام الماضية، ولكنّهن الآن أمام ورطةٍ كبيرة، فهي لا تستقبل الأطفال بعد النجاح في الخامس الإبتدائي، علاوةً على أنّها قد أعطتهن إفادة غير معترف بها في المدارس اللبنانية الرسمية.
الأمهات وقعن في كارثة تعليم بناتهن، فالمدارس المهنية لن تستقبلهن لذات السبب، والمدارس الرسمية بالكاد تستوعب وتستقبل الأطفال اللاجئين المسجلين عندها من قبل.
قد ألغت الوزارة هذا العام، تفعيل برنامج التعليم المكثف التابع للمفوضية، والموجّه لكافة الأطفال اللاجئين المنقطعين عن الدراسة لعامين أو أكثر، وكلّه بحجّة انقطاع التمويل والدعم الذي ترويه المفوضية، وعدم قدرتها الدفع للوزارة.
الأبواب كلُّها تغلق شيئاً فشيئاً بوجههن. ماذا سيفعلن؟
هل تزوّج الأرامل بناتهنّ الصغيرات لتستقيل من همّهن، أم يتزوجن هنّ، لتصبح بناتهنّ برعاية زوج الأمّ، أم ماذا؟
الأحاديث كلّها تقود إلى المجهول، ولكن مقابل حديث الزواج، جميعهن يتوجهن بأنظارهنّ إليّ، ليضحكن ويرمين الكلمات. بنظرهن ينبغي أن أعيش مسيرة الحياة مع زوج يريحني من همّ الحياة، فقد بلغت من العمر كثيراً، وأنا متعلمة ولا ينقصني شيء من الجمال، بحسب ما يقلن.
أتعجب ممّا يحدثنني به، كيف يرون الحياة السعيدة لي بأن أتزوج، و أنا أرى سعادتي بإستقلاليتي هذه؟ النقاش والمعادلة، الحديث عن هذا الموضوع يحتاج مقالاً آخر ربّما، أو سلسلة.
عدتُ البارحة لأرى ماذا حصل في المخيم، فأنا أبحث عن حلّ لتعليم صغيراتهن هنا، والمشكلة الطامّة التي تحيط بهنّ. فوجدت الأخبار الأقسى. إنّ إدارة المخيم التابعة لجمعية إسلامية أبلغتهن برفع يدها عن رعاية المخيم، وأنّه ينبغي عليهن إتخاذ القرار بمصيرهن. ففي الشهر الأخير لهذا العام، ينبغي أن تكون هذه الأرامل والعوائل الأخرى، خارج المخيم. أو أمامهن إحدى الخيارات التالية، دفع أجار الخيمة التي يقطنون مع الكهرباء والماء بإستقلالية وسعر كبير، أو يستلم المخيم “شاويش” تُعيِّنُهُ صاحبة الأرض، ليتحكم بإدارته ويجمع منهم الأجار. أو يغادروا هذا المخيم.
الخيارات أمام الأرامل كلّها صعبة وأسوء من بعضها، فلا قدرة لهن على دفع شيء، خاصة بعد رفع المساعدات من قبل المفوضية، ولكنّ الخيار الأسوء، تعيين “الشاويش” للمخيم.
فهو سيجبرهن فيما بعد على الذهاب للعمل بالأرض، ويأخذ الثمن لنفسه، كما أنّه لربّما يجبرهن على العمل بما يريد هو!
هذا الصباح استيقظت معهن باكراً، الحمامات داخل الخيم تطوف بمياه الصرف الصحي، الأمطار أغرقت المخيم فوق مياه الصرف الصحي الجارية بين الخيم، الوضع لا يوصف بالنسبة لي، غير أنّنا لا نستطيع الدخول إلى الحمام، ولا التفكير بشرب الماء حتّى!
يخرج رجل الدين، وهو أحد المسؤولين على المخيم، ليخطب بهم الجمعة على المنبر.
ينبههم بوجوب الصلاة. ولكنّه يغضب كثيراً عندما يخبرونه بما يحدث لهم منذ يومين جراء تسرب مياه الصرف الصحي و إغراقها لخيمهم.
يردّ عليهم بلهجته الحادّة، أنّه لم يعد مسؤولاً عن ذلك. بات هو والمشايخ المسؤولون ضيوفاً على المخيم، فقد انتهت رواتبهم، وانتهى التمويل.
في هذه اللحظة أجلس أنا وأكتب، أصوات السيارات تصل للسماء ابتهاجاً وفرحاً، لقد وصل أهل العريس، ليأخذوا جِهاز “فاطمة” ذات الأربعة عشر من عمرها. أمّها إحدى الأرامل التي سهرت معنا بالأمس. في المرة الأخيرة أخبرتنا أنّهم أجّلوا العرس لـسَنة قادمة، كي تكبر بنتها، ولكن كلّ هذه الأوضاع جعلت ابن عمّها يستعجل بأخذها، لتكون ملكة بيتها في رحمة حياته، بعيداً عن جحيم هذه الخيمة.
أيضاً في هذه اللحظة غاص “أبو خليل” في حفرة الصرف الصحي لعلّه يجد حلّاً يخفف عن أهل المخيم كلّه. فسارع طفلا الأرملة “أم محمد” ليساعدانه.
ماذا ينتظرنا غداً من أحداث، ومَن ستأخذ القرار بعد “أمّ سعاد” لتعبر إلى سورية، دون رجعة.
“أمّ سعاد” أرملة أخرى قررت الذهاب بأطفالها قبل يومين، إلى بيتها المهدّم في الغوطة لعلَّه أرحم عليهم. ولكنّ بلدات شقيقاتها الأرامل، مغلقة دون مصير، فـريف حمص بقبضة حزب الله، والغوطة ليست آمنة ابداً، وريف حلب وادلب وغيرها… كلّ البلدات خرجن منها زحفاً للنجاة من الموت والاعتقال، من بطش النظام وحلفائه.
هل لهذا الوجع أن ينتهي هنا! فالخوف من جلطات دماغية حتميّ، إذا ما استمرين بالتفكير بكلّ هذا. لا ملاذ ولا فرار، من أيّ قرار آخر يصدر غداً. أو خناقٍ أكبر لهنّ برعاية أممية دولية.
خاص “شبكة المرأة السورية”