وجدان ناصيف
تعيد الموظفة الفرنسية ذات الجمل على مسامعي بدون إظهار أية مبالاة بردودي. بتُّ أشك أنها حفظت تسجيلاً عن ظهر قلب وها هي تكرره للمرة الثالثة. ملامح وجهها الباردة لا تتغير وهي تواجه ردودي الغاضبة والمستاءة، لكني رغم ذلك لن أنسى وضع ابتسامة اللباقة الزائفة بين الحين والآخر.
- رفضنا استقبال التحويل المصرفي لان اسم المودع مذكور فيه كلمة “سوريا” .
- منذ متى أصبحت كلمة “سوريا” تهمة؟
سمعت كثيراً عن قصص من هذا النوع تحدث مع السوريين العاملين في منظمات سورية في مصر وفي تركيا، لكن لم أكن أتخيل أنّ يحدث ذلك في فرنسا!
- “سورية؟ أنا سورية… أنا لاجئة سورية… بلدي اسمه سوريا”.
رددت بعصبية كلمة سورية أكثر من عشر مرات. من السهل جداً أن نتحول إلى شوفينيين في هذه المواقف.
منذ أن جئت هنا وأنا أعيش صراعاً دائماً مع طباعي السابقة. مع ردود أفعالي وسلوكي وطريقة تفكيري، لكن في لحظةٍ ما، يخرج كل الغضب المتراكم وأعود لبعض الأسئلة العقيمة: لماذا جئنا هنا؟ وهل سنبقى أم نعود؟
ماهر لم يضطر للتعاملات المصرفية هنا. كان يرسل لعائلته مبلغاً شهرياً بسيطاً مما يناله من الـ”جوب سنتر” في ألمانيا، من خلال مقايضات مع سوريين يبيعون أملاكاً لهم هناك ويقبضون أثمانها هنا، وذلك لأنّه طوال ثلاث سنوات كان لديه هاجس وحيد هو “لم شمل عائلته”.
اليوم صدر قرار لم الشمل، لكن ماهر عاد قبل أربعة أشهر إلى دمشق.
كانت أسنانه قد تساقطت بسبب السكري وانتشار مرض غير مفهوم على جلده، لم تنفع العقاقير الأوروبية بمداواته.
بدأت الأعراض حينما اعتقل ولده من قبل الفرع 215 في عام 2013 ثم بعد أقل من شهرين وصلته قصاصة ورق لمراجعة مركز الشرط العسكرية في القابون. قيل له بأن ولده ذو الثمانية عشر عاماً قد توفي لأسباب صحية.
ماهر لم يخرج بالمظاهرات السلمية ولا حتى أراد تغيير شيء. كان الوضع على حاله جيد بالنسبة له، يملك سيارة أجرة يعمل عليها بنفسه ولديه بيت وزوجة يحبها وولدان توأم وبنت وأراض أخذتها الدولة من والده لإنشاء مقرات عسكرية، لكنه وُعد دائما بتعويض سخيّ. لم يحب المدرسة ولا التعليم ولم يكن يحب تعلم اللغات الأجنبية بخاصة ولا حتى رغب بالسياحة في بلدان أخرى. كان هواء الشام يكفيه ولا يحب “تغيير طعمة فمه” كما كان يقول.
- سورية أو Ma Syrie ، ماذا تعرفين عنها؟
- بلاد الحرب والعصابات والارهاب!
في الطريق البحري الخطر إلى أوروبا لإنقاذ نصف التوأم وتجنيبه مصير أخيه بدأت تظهر دمامل غريبة في جسده، كانت تزداد مع مرور الوقت في انتظار لمّ شمل ابنته وزوجته.
ماهر لم يحتمل هذه البلاد الجميلة، بلاد القوانين وحقوق الانسان وهو لا يستطيع تعلم لغة أجنبية كما يجب، ولم الشمل بدا له مستحيلاً، خاصة بعد الرفض المتتالي، لذلك قرر العودة.
قام أقرباؤه بـ” تفييش” اسمه عند الجهات المختصة ووجدوا سجله نظيفاً. هو لم يحب الثورة ولا الحرب. هو أحب دوماً أن يكون سائق تاكسي يعمل في أيام الصيف وعلى رقبته “بشكير” مبلل بالماء، يعود مساءً إلى بيته حاملاً غلّة اليوم الكريمة وبضعة أكياس سخية.
- سوريا يا سيدتي، Ma Syrie ، هي البلاد التي يوضع كل يوم أبناؤها في امتحانات صعبة.
بعد شهر من وصوله تم اعتقاله من قبل الفرع ذاته الذي اعتقل فيه ولده قبل أربعة أعوام.
هل يمكن أن تكون هناك قسوة إلى هذه الدرجة؟ أن تذهب إلى مكان الجريمة التي ارتكبت في حق فلذة كبدك وأن تختبر كل آلامه، أن تعاد على مسامعك أصوات صرخاته وأن تهيم روحه المشتاقة حولك وتترك ألماً يحرق روحك وينهك جسدك، تتلمس الجدران بعناية بحثاً عن آثار لمساته، تحدق طويلاً بعيون غبشها السكري باحثاً عن جملة كتبها بأظافره؟
كانت روحه هناك معلقة في ذلك المكان الرهيب تنتظر معجزة انعتاقها بعدما انعتقت من الجسد. الموت تحت التعذيب هو موت مضاعف.
- سوريا البلاد التي كيفما هربنا منها نعود مرغمين لنقف على شرفاتها لنصدم بهزائمنا وأرواحنا المكلومة وخساراتنا التي لا تحصى.
عمل قريب لماهر على ترتيب صفقة لإطلاق سراحه، لكن “العميل” طلب مليوني ليرة. بعد القبول الأوليّ، دخلوا معه في مزاد. ومع ازدياد وضع ماهر الصحي سوءاً كان المزاد يرتفع حتى أصبح خمسة ملايين ليرة.
جمعت العائلة كل ما تملكه، وحيث أنهم لم يعودوا يملكون شيئاً فعلياً، لم يكن هناك من بدّ سوى استدانة المبلغ بالفائدة من وسيط آخر.
خرج ماهر، من فرع الموت، متعب ومقهور ومديون بمبلغ، سيكافح عمراً كاملاً لتسديده، ثم وصل قرار لم الشمل بعد اطلاق سراحه بأيام.
هل هي اذاً فرصة للزوجة والأخت للالتحاق بنصف التوأم الذي بقي على قيد الحياة؟ طيب وماهر الذي عاد من أجلهم ماذا يفعل وهو لم يعد بإمكانه العودة إلى بلاد الجرمان؟
- سوريا يا سيدتي هي الأسئلة الصعبة، الصعبة.
تعيد عليّ ذات الجمل، بذات الايقاع بدون أية ملامح على الوجه. أقرر ابتلاع ردودي كلها والخروج.
أصطدم بأقدامي على الطريق . مع كل خطوة تتزاحم أمامي أقدامهم، أقدام من قدموا على قيد أمل، أحاول العودة إلى واقعيتي المعتادة وأقول لامرأة تمرّ إلى جانبي، لها ملامح وجهي ولكنة لساني الغريب، بعد أن أضع الابتسامة على وجهي:
- بونجور (طاب نهارك)
خاص “شبكة المرأة السورية”