بيان ريحان
(صوت ضجيج في الشارع الذي سكنه الصمت لأكثر من ستة أشهر ،هناك أصوات غريبة ما الذي يحدث ؟ هل أنا أحلم أم ماذا؟)
استيقظت في الرابعة صباحاً على تلك الأصوات، الظلام دامس ولا يوجد أي ضوء، قررت الصعود إلى السطح لأحصل على تغطية اتصال الانترنت حيث كانت مدينتي محاصرة من قبل نظام الأسد ولايوجد لدينا وسيلة اتصال الا تغطية ضعيفة للهاتف المحمول نحصل عليها بصعوبة وخطورة من المناطق المرتفعة القريبة من أبراج النظام.
أصوات سيارات الإسعاف لايتوقف، ما الذي حدث في المدينة لا أعرف، ولكن بالتأكيد هناك كارثة مع أنني لم أسمع شيئاً طوال فترة الليل. صعدت إلى السطح و فتحت جهازي لأصعق بتلك المناظر التي شاهدتها لأول مرة والتي ستصبح جزءاً من ذاكرتي لا يفارقني أبداً.
قرأت خبراً على مجموعة أخبار دوما، ضرب النظام لمدينتي زملكا وعين ترما و جوبر بغاز الكيماوي. الصور الأولية التي زودنا بها أحد المراسلين من النقطة الاسعافية الوحيدة الموجودة في المدينة تخبر بأن هناك كارثة حصلت.
لم أستطع الصبر أكثر، نزلت إلى المنزل و جهزت نفسي للخروج. طمأنت أهلي الذين كانوا ينتظروني أن لا شيء حصل، ولكنها تجهيزات تقوم بها سيارات الإسعاف، انتظرت الشمس أن تشرق قليلا لأتمكن من المسير.
اقتربت من شارع نقطة الإسعاف، أو النقطة واحد كما كنا نسميها، لم أستطع الدخول لهول المنظر، أعداد كبيرة من الناس ومن السيارات كلها موجودة في الشارع والجميع يصرخ. تسللت بصعوبة إلى بهو النقطة لأجد صديقتي الممرضة تخبرني بأن أساعدهم وأتوجه إلى جامع البغدادي القريب من النقطة حيث توجد النساء المصابات و الأطفال وأن هناك عجز بالاسعاف. فسألتها ما الذي حدث فأخبرتني بأن النظام قصف الغوطة بالكيماوي وأغلب الإصابات تأتي من مدن القطاع الأوسط بالغوطة جوبر، زملكا وعين ترما، وعدد الشهداء كبير جداً والمصابون غالباً سيموتون حيث لا يتوفر العدد اللازم من حقن الاتروبين المضاد للكيماوي، فهرعت معها إلى المسجد للمساعدة وهناك كانت القيامة.
نساء و أطفال الجميع يصرخ و يبحث عن عائلته، أقصى ما يمكنك فعله هو خلع ملابس المصابين ورشهم بالمياه، ومن ثم تبحث لهم عن أحد أفراد عائلتهم، وهذا كان شبه مستحيل، حيث أن الشهداء بالمئات والإسعاف عشوائي، حيث تمت عملية الإسعاف من تلك المدن إلى مدينة دوما، التي كانت أبعد عن تأثير غاز الكيماوي و التي تتوفر فيها خدمة طبية تعد جيدة تبعاً لظروف حصار الغوطة.
بقينا في المسجد للساعة الحادية عشر صباحاً و أعداد المصابين بازدياد، وهناك نقص بكل شيء. قررت الخروج من المسجد والعودة للنقطة. أخبرت صديقتي بأنني سأعود، ولكن سأذهب لأعرف آخر الأخبار.
لم أستطع النزول للقبو فالازدحام شديد في النقطة، شاهدت صديقي عبد الرحمن المدور فلوحت له بيدي، كان يحمل طفلاً فأشار لي بأنه سيعود وركب سيارته وانطلق.
سألت الحارس على باب النقطة فأخبرني بأن الشهداء كلهم في مدرسة الحسن البصري، حيث يتم تجميعهم، وحدثني عن بعض الأخبار وقال لي بأن عدد الشهداء تجاوز الألف. لا أعلم لليوم كيف بقيت صامدة عندما سمعت هذا الرقم.
في المدرسة كان يقف الإعلامي محمد السعيد، يصور تقريراً عن المجزرة. شاهدته من بعيد، حاولت الدخول ولكن الحارس كان يطلب من الناس الخروج وإعطاء المجال للدفاع المدني ليستطيعوا توثيق الجثث، وهنا شاهدت أحد أصدقائي بالدفاع المدني الذي أدخلني برفقته لباحة المدرسة لأشاهد مئات الجثث لأطفال ورجال شبه عراة و نساء ملفوفين بأكفان وأغطية وعلى جبينهم لصاقات تحمل أرقام حيث أن هناك شخص كان يقوم بترقيم الجثث.
هذه المجزرة التي ما شهد العالم مثلها توثق بلصاقات و قلم حبر فقط يرقم الجثث.
عدت إلى نقطة الإسعاف حيث بدأ الناس بالانصراف وقل الازدحام، والشهداء في طريقهم للدفن، والمصابين مازال قسم منهم في المساجد وقسم استقبلته العائلات وهناك أشخاص من المصابين لا يعرفون من بقي من أسرهم على قيد الحياة. وتذكرت في تلك اللحظة أن لي صديقة من زملكا مدرسة جغرافيا كانت معي قبل يومين حيث كنا نصحح مادة الاجتماعيات لصف التاسع، فسألت عنها من وجدت من المصابين ولكن دون جدوى، لا يعرف أحد إذا كانت على قيد الحياة أم لا.
شارفت الشمس على الغروب فعدت إلى المنزل لأجد عائلتي في غاية القلق بعد أخبار هذا اليوم الأسود فتحادثنا عن المجزرة.
صعدت إلى السطح لأنشر بعض الصور التي التقطتها بعدسة هاتفي المحمول ووجدت مواقع التواصل الاجتماعي تضج بصور الشهداء والاعلام كله يريد أن يتحدث إلى شهود على المجزرة. عدت لأرى تلك الصور وكان رقم عداد الشهداء توقف عند 1200 شهيد باليوم الأول، وصعقت عندما رأيت صورة عبد الرحمن وقد استشهد حيث أنه كان يسعف من زملكا و ذهب هناك لأكثر من مرة و من ثم تأثر بالغاز واستشهد ولن يعود لأحدثه عما رأى بعد.
توقعت أن لاينتهي اليوم إلا و العالم قد أزاح بشار الأسد عن الحكم وقام بإعدامه لشناعة جريمته، توقعت بأن يحدث زلزال بالأرض لينتقم لكل هؤلاء الأطفال … و لكن لم يحدث شيء.
حل الظلام من جديد وعاد الهدوء ليخيم على الغوطة من جديد بعد أن دفنت أبناءها وتم تسجيل الجريمة ضد مجهول كآلاف الجرائم التي ستحدث فيما بعد وسيتم غض النظر عنها.
فيما بعد كنت عندما أتحدث مع صديقاتي و نذكر طرق الموت التي عايشناها نحن السوريين، واذا ما خيرنا بطريقة للموت فأي طريقة أختار، كنت دائما أفضل الموت بالكيماوي لأنه يمنحك جثة كاملة و موتاً صامتاً يشبه في صمته صمت العالم عن جرائم الأسد في سوريا.
في ذكرى مجزرة الكيماوي 21/8/2013
خاص “شبكة المرأة السورية”