درعا – زينة سليم
إنهن يتلون صلواتهن ويتهجدن في حين تُخاض المعارك بالقرب منهن. هذا حال النساء في مدن وبلدات درعا التي تعرضت للقصف وهجرها قسم كبير من سكانها الفترة الماضية. لا شيء مفهوم، فصوت الرصاص والانفجارات وصور الهاربين من بيوتهم كانت ولا تزال اليقين الوحيد.
أنا إمراة من إحدى بلدات درعا، في الثلاثينات من عمري وهذا ليس اسمي الحقيقي، رغم أني قبل شهر كنت لا أخاف من ذكره. سأحدثكم عن الخوف الذي اقتحم بيوتنا وحياتنا وأرواحنا الشهر الماضي. مرّ الاعلام من هنا، تحدثوا عن المعارك القائمة في الجنوب وعن الانتصارات، عن حشودات النظام في بداية المعركة عند منطقة اللجاة وكيف استعد الجيش الحر للمعركة وكيف انتصر، وكيف أنهم سيقاومون الى آخر نفس. ثم تحدثوا في اليوم التالي عن دخول جيش النظام الى اللجاة ومبايعة بعض العشائر له ضمن شروط لم أفهم منها شيئاً، وربما كثيرون مثلي لم يفهموا، لكن الأكيد أنها كانت صدمة أدت لانهيار الروح المعنوية للكثيرين. كان الألم كبيراً بعد سماع أنباء استشهاد عدد كبير من شباب المنطقة خلال أيام قليلة. ثم جاء كما تعرفون اقتحام بصر الحرير وصمد شباب درعا المقاوم أمام الطيران والراجمات والهاون وصواريخ الفيل، التي كنت لأول مرة أسمع بها. كنت سابقا أحب الفيلة! خمسمائة غارة جوية في ليلة واحدة شنت على بصر الحرير والصورة والحراك والجيزة والمسيفرة، ثم “دخل الجيش بصر الحرير”، هكذا كان الخبر!
إنها مجرد أخبار حرب عادية بالنسبة للمستمعين، لكن تعالوا لأخبركم قصصاً على هامش الحرب. قصص قلما ستسمعونها فهي لبشر عاديين، كانوا يفضلون أن يعيشوا عمراً مديداً وسعيداً، ببساطة، أن يذهب أبناؤهم للمدرسة وأن يحتفلوا بنجاحاتهم وأن يشيخوا ويهرموا بشكل طبيعي.
شخت كثيراً الفترة الماضية، أظنها كانت دهراً
قررت ان لا أغادر بيتي وأتركه نهبة للمعفشين، وأردت أن أبقى بين جدرانه لأني ظننتها ستحميني وتحمي أولادي. لكن مع سقوط أول قذيفة في الحي أدركت ان حياتهم اهم من اي شيء. ركضت هاربة مع الهاربين إلى الصحراء، إلى الحدود، إلى الكهوف، إلى أي جهنم، بعيداً عن هذا الموت المؤكد. في طريقي تعرفت على الكثيرين، معظمهم من النساء والاطفال، نساء مثلي بقين بلا حيلة. يدرن حول انفسهن بحثاً عن قشة نجاة لهن ولأولادهن. لكن أكثر ما أحزنني هو بقاء كبار السن. ستقرأ ما حدث ويحدث في تفاصيل وجوههم التي ستبتسم لك ابتسامة مرارة لن تستطيع تفسيرها. ستلعن الحرب وتمضي.
ولادة حياة رغم الحرب
أنا عبير من درعا، يوم قصفت الحراك كنت على وشك ولادة ابنتي الصغيرة . هي ثمرة حبي وزواجي من عمر قبل عام، حضّرنا كل ما يلزم لاستقبالها منذ علمنا أنها تتبرعم في أحشائي ونحن في غاية السعادة وننتظرها بفارغ الصبر. أنهى عمر صناعة سرير خشبي جميل لها واشترى فستاناً ابيض جميلاً متل فستان العروس. اشتراه لها بمبلغ كبير وأنا حضرت الكثير من الثياب الصغيرة التي كانت تبهج خاطر كل من حولنا عند عرضها.
عندما بدأ القصف، اول ما فكرت به هو حماية طفلتي. امسكت بطني بكلتا يدي لكي لا تسمع اصوات الطيران والقصف. اتمنى ان لا تعيش اي نوع من انواع الحرب ولا تتعرف على اي نوع من انواع الأسلحة. كان عمر بالمقابل يحضنني. مضت ساعات ونحن مصدومون. كل شيء جرى على نحو سريع، طيران، قصف مدفعي، اصوات رصاص، اشتباكات قريبة، صواريخ، إنها جهنم، وأنا وعمر وابنتنا التي لم تخرج للحياة بعد، وجدنا انفسنا في داخلها بدون أي مفر.
بعد ساعات عدة، توقف القصف لمدة نصف ساعة فقام زوجي بإخراجي من المنزل وبدأ بالبحث عن طريق لخروجنا إلى أي مكان آمن. تجولنا هاربين من حارة الى حارة ومن بيت الى بيت ولكن لم نكد نصل الى اطراف البلدة حتى غارت طائرة روسية على البلدة واقتربت من مكاننا وقصفت بيتاً كان قريباً منا. ما أصعب بناء البيوت وما أسهل هدمها، فكرت للحظات. سقطنا على الارض، كان زوجي هو الحامي لنا نحن الاثنتين. امتلأ فمي وعيناي بالغبار والتراب، وعندما أفقت من الصدمة كان عمر بعيداً. وقفت كالمجنونة أناديه: “عمر … عمر …”، تلمست بطني، إنها بخير. لم اعرف للحظات هل أصبت ام أصيب عمر. جاءني صوته بعد لحظات الرعب تلك: “انا بخير”. لكني صرخت به: “أعتقد أني سألد”، كان الألم شديداً وكانت ابنتي قد توقفت عن الحركة. لم افهم، كنت أردد بهلع: “ماتت ابنتي”. لكنه كان يحاول طمأنتي، بدأت بالبكاء ورأيت عمر وهو يخبئ دموعه. كان الألم يزداد على نحو شديد وأنا وهو في مكانينا ساكنين لا نعرف ماذا نفعل والى اين نتجه. ذهب عمر ليبحث عن مغيث في البيوت القريبة لكنه وجدها خاوية تماماً.
استمرار الرعب والقصف الشديد لم يسمحا لنا بالتفكير في مخرج. جلسنا إلى جانب الطريق والركام حولنا والألم يزداد في أسفل بطني بدون توقف وخوفي بدأ يكبر لان الطفلة لم تعد تتحرك. ثم تدفق ماء ساخن لوث قدمي. لم اكن اعلم انها علامات المخاض ولا عمر كان يعرف. ناديت على عمر الذي بقيت عيناه تبحثان عن مخرج بدون أن يبتعد كثيراً. وقف قبالتي لا يعرف ماذا يفعل. كلانا كان بلا حيلة. عرفت، وربما عرف يومها معنى ” اللا حول ولا قوة”.
جلس بجانبي وبدأ يشد من عزيمتي: “ستلدين ابنة جميلة وسوف تعيش وتكبر امام أعيننا … سوف نلاعبها …”، كان يحكي بينما كنت غارقة في ألمي. بدأت بالصراخ من شدة الألم. حملني عمر وبدأ يركض. دخلنا الى احد البيوت المهجورة . قال لي: ” تشجعي، لن نخسر طفلتنا، أقسم لن اسمح بخسارتك لا انت ولا الطفلة”. لكن صراخي بدأ بالنسبة له كجرس انذار لا يفهم معه أي محاولة للتهدئة. تركني وركض إلى الشارع.
بعد دقائق ظننتها دهراً، عاد ومعه سيارة اسعاف تحمل جرحى من مقاتلي الجيش الحر. فهمت فيما بعد ان عمر وقف منتحرا امامها لكي تتوقف، ترجاهم أن يسعفوني فركض السائق مع عمر ووضعوني في سيارة. تلفتت حولي فرأيتهم شباب بعمر الورود. كان عمر إلى جانبي يغطي عيوني كي لا اراهم، كانوا مضمخين بدمائهم لدرجة يصعب معرفة مكان اصابتهم. لحظتها نسيت تماما ألمي. خجلت جداً من الصراخ، فكرت بأمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم. ماذا فعلنا لكي نواجه بكل هذا الظلم والوجع؟ أي شيء أغلى من حياة هؤلاء الشبان؟
بعدها غبت عن الوعي وافقت على صوت عمر: “عبير … عبير … سامعتيني؟ لقد انجبت طفلة مثل القمر، أنت الآن في المستشفى. أجروا لك عملية قيصرية. نجوت أنت والصغيرة”.
كنت في غرفة فيها بعض الاجهزة وممرضة وألم كبير أسفل بطني. قالت الممرضة : “عدت للحياة بأعجوبة، الحمدالله على السلامة”.
فرحت يومها بنجاة صغيرتي وحزنت فيما بعد على اخبار المدن والقرى التي دمرت. قبل يومين عدنا إلى بيتنا في الحراك مع طفلتنا. كان بيتنا مدمراً بالكامل ولا اثر لثياب وسرير ابنتي، لكن “حياة”، وهو اسم صغيرتنا، كانت بخير، وهذا الأهم.
خاص “شبكة المرأة السورية”