Search
Close this search box.

حين تصبح رقماً

حين تصبح رقماً

سلمى الدمشقي

ظهرت في بداية الشهر السابع في سوريا شائعة لم يعرف أحد مصدرها ولم يتناولها الإعلام الرسمي، ولم تصدر في جريدة من جرائد هذا الوطن، وانتشرت بشكل كبير في جميع مواقع التواصل الاجتماعي وتداولها الناس بكثرة وكانت صحيحة، أسماء المعتقلين الذين استشهدوا تحت التعذيب أصبحت في سجلات النفوس المدني، جميع الناس عرفت بها وتناقلتها.

في كل أسبوع تنزل قائمة لمنطقة ما، وهكذا عرفنا أنه في داريا هناك /1000/ معتقل اسماؤهم أصبحت في السجل المدني وقد أصبحوا أرقاماً، وكذلك في درعا وفي المخيم وفي الحسكة وفي دير الزور وفي حلب وفي حمص. تتراوح الارقام بين الكبيرة والصغيرة، أكبر رقم لغاية تاريخه هو داريا، وأصغره حوالي العشرين اسماً في ناحية من درعا، حتى أصبحت الأرقام المتداولة حوالي /7000/ رقم لعموم سوريا هم شهداء تحت التعذيب، وفي الشهر السابع فقط من هذا العام، نزلت أسماؤهم في السجلات المدنية بحالات أزمات قلبية وعلى أهاليهم أن يقوموا باستلام شهادات الوفاة لأبنائهم بأسباب طبية مختلفة، عدا طبعا الموت تحت التعذيب. لا أحد يذكر هذا السبب، لا يوجد اي شهادة وفاة معنونة به، على رغم أن الجميع يعرف أنه السبب الحقيقي الوحيد. لم تتم الإشارة اليه لا في قنوات الأخبار السياسية ولا في المجتمعات الدولية أو المؤتمرات التي تنعقد وبكثرة عن سوريا، والمهزلة أن الامم المتحدة سعيدة بهذا الإنجاز فهي قد طالبت بالكشف عن مصير المعتقلين وهي الآن تعرف مصيرهم.

والآن على أهالي المعتقلين الذهاب بهدوء إلى سجلاتهم المدنية واستخراج قيد عائلي للمعتقل لمعرفة هل نزل اسمه بالقوائم أم لا يزال على  قيد الحياة حتى إشعار آخر.

وطبعا الأهالي وقد طال انتظارهم ولمدة تزيد لدى البعض عن سبع سنوات هم بحاجة لمعرفة أخبار عن أبنائهم حتى ولو كان هذا الخبر صادماً إلى هذه الدرجة، فهناك أبناء بحاجة إلى معرفة وضع والدهم وهناك تركات بحاجة للتوزيع وهناك زوجات قد غادرن البلد وبحاجة لمعرفة مصيرها لتقرر حياتها من جديد، وهناك وقبل كل هذا أمهات بحاجة ليرقدن في آخر الليل على وساداتهن وقد سلمن  أمرهن لربهن  فابنهن قد ارتاح من العذاب وروحه الآن تحلق في السماء.

ربما لا تعبر الكلمات ولا حتى اكثر المواضيع إنشاءً وتعبيراً في اللغة العربية  وصف ماذا يعني هذا الكلام وهذه الإشاعة وما تحمله من الألم لأهالي المعتقلين.

لا أحد يستطيع تخيل أن يذهب والد او والدة  أو حتى ابن معتقل أو  زوجته إلى السجل المدني طالباً بياناً عائلياً للمعتقل وينتظر النتيجة من عيون الموظفة المحايدة التي تنظر إلى شاشة الكمبيوتر أمامها بوجه خالٍ من التعابير لأنه حتى لو وجدت هذه التعابير فهي تخاف البوح بها. تعلمنا جميعنا عبر هذه السنوات السبع العجاف أن نكتم مشاعرنا ونخبئها عميقاً في داخلنا ولا نفصح إلا عن الحياد البارد الخالي من العواطف لأن أي مشاعر ولو في حدها الأدنى قد تكون مضرة بصاحبها ويصبح متعاطفاً مع إرهابي ومصيره محكمة الارهاب نتيجة تقرير كاذب من عين لقطت هذا التعاطف البسيط.

هذه الدقائق التي قد لا تتجاوز العشر وهي مدة استخراج البيان العائلي كافية لأن تحطم أعصاباً من الفولاذ.

ذهبت إحداهن لاستخراج هذا البيان اللعين وعادت ضاحكة  ووزعت الحلويات لأن موظفة السجلات قد أخبرتها أنه  لم تنزل بعد القوائم الخاصة بمنطقتها  ويستلزم شهرا لتنزل. وطبعاً كان سبب فرحتها أن هناك أملاً لمدة ثلاثين يوماً ستعيش عليه أن ابنها لا يزال حيا وربما تتغير الأمور في هذا الشهر ويخرج ابنها للحياة.

وأخرى ورغم أنها استلمت هوية ابنها من فرع الأمن العسكري من سنتين وهذا يعني انه استشهد جربت حظها مع السجلات المدنية وعادت ضاحكة أيضا. فابنها لم ينزل اسمه في القوائم وطبعا الأمل الكاذب أوحى لها أنهم مخطئون في الفرع وابنها لا يزال على قيد الحياة .

وأخرى رفضت أن تذهب إلى السجل المدني رغم أنها من منطقة قد نزلت قوائمها في السجلات المدنية لانها تفضل أن تعيش على الحلم من أن تستلم شهادة وفاة ابنها بيدها.

وكثيرات ذهبن وعدن بهذه الورقة اللعينة وقد كتب عليها تاريخ وفاة يعود لثلاث أو أربع سنوات وطبعا السبب أزمة قلبية وأغلبهم لا يزال في ريعان شبابه.

ربما الكثيرون منا الذين غادروا والذين بقوا قد تقبلوا وعلى مدى سنوات وبرغم الوجع الهائل فقدانهم لبيوتهم وذكرياتهم وأرزاقهم ومناطقهم وتعاملوا مع الأمر الواقع واستطاعوا الى حد ما وبعد طول معاناة ترميم حياتهم والبدء من جديد بحياة جديدة وبيت جديد وذكريات جديدة، عموماً لا أحد ينسى، ولكن هناك حياة يجب أن تعاش وأطفالاً يجب أن يكبروا ، كل منا وضع على جرحه ملحاً ومضى يشق طريقه في هذه الحياة مهما كانت خسائره كبيرة في هذه السنوات التي مضت من حلمه بالحرية.

أهالي المعتقلين هم الاستثناء الوحيد فجرحهم لا يزال مفتوحاً وينزف مع شروق شمس كل يوم جديد.

هناك ابن او ابنة او زوج او زوجة في زنازين الموت الباردة لا يستطيع احد قريب منها أن ينساها، هناك روح معلقة تحلم بالحرية وبالأهل وبالشمس وبالحياة من جديد.

هناك أم تنتظر مصير ابنها لا يغمض لها جفن إلا وصورة ابنها آخر من تشاهده ليلاً وأول من تحلم برؤياه عندما يأتي الفجر.

هناك جسد يئن تحت التعذيب في معتقلات سمعن كثيراً عن أهوالها نتمنى ومن كل قلوبنا أن لا يبقى سجين بداخلها.

ولكن لم يكن أحد يتوقع أن يكون نتيجة انتظاره هي هذه القوائم الخالية من الحياة. كل منا حلم بأن تكون هناك نتيجة لمفاوضات جنيف او حتى سوتشي والآستانة  والحد الأدنى هو إفراج غير مشروط عن معتقلي الرأي. أما أن يكون نتيجة صبر سبع سنوات هي شائعة تتحول إلى حقيقة في مملكة الظلام هذه ولا نملك حيالها شيئا ولا حتى الاعتراض في القلب وتحول آلاف من الأرواح والقصص والحكايات والعيون المعلقة الى أرقام باردة مجردة … فهذا قمة الحضيض.

خاص “شبكة المرأة السورية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »