نبال زيتونة
لعنةٌ قديمة جديدة تلك التي وسمت حياة المرأة الإيرانيّة، ورافقتها على مدى ما يقارب قرناً من الزمان. إنّها لعنة الحجاب، إذ لم يكن الحجاب مجرّد غطاء للرأس، بل كان رمزاً من رموز القهر والاستعباد الذي مارسته الأنظمة المتعاقبة عليها، سواءٌ في فرض نزعه زمن الشاه رضا بهلوي، أم في فرض وضعه في المرحلة الخمينيّة.
وفي كلّ مرحلة كانت المرأة الإيرانيّة تلتقط ما يُراد من وراء ذلك، وتشحذ همّتها للدفاع عن حرّيتها المسلوبة وحقوقها المستباحة، فتنزل إلى الشوارع في مظاهراتٍ تحشد فيها كلّ فئات الشعب.
لقد منع الشاه “رضا بهلوي” الحجاب بالقوة، عام 1936. وكان قبل ذلك طوعيّاً، حسب ثقافة النساء ومعتقدات عائلاتهن.
حيث صدر قرار منع الحجاب، بعد خمسة وثمانين عاماً على إعدام الشاعرة القزوينيّة قرّة العين (1815-1852)، بسبب رفضها الحجاب، وتمرّدها على واقعها آنذاك.
أراد الشاه رضا بهلوي، وحسب فهمه المتواضع للعلمانيّة أن يسير على خطى أتاتورك في بناء بلده، على الرغم من أن الأخير ترك للنساء حريّة الاختيار بين الحجاب أو عدمه. كما كان معجباً بالملكة “ثريّا” ملكة أفغانستان، التي كانت سافرة في ذلك الزمن. وكانت إصلاحات زوجها محطّ اهتمامه. كلّ ذلك حفّزه ليعلن عن قانون خلع الحجاب بالقوّة في إيران، وتعديل قانون الأحوال الشخصيّة. حيث نزلت الشرطة إلى الشوارع، وواجهت النسوة بضربهن ونزع حجبهن عنوة.
احتجّت النساء المحجّبات في ذلك الزمن، على قضيّة منع الحجاب، فشاركتها النساء السافرات أيضاً، حيث كن يضعن الحُجُب ويخرجن في المظاهرات جنباً إلى جنب، بوعي كامل لأبعاد القضيّة. فهي ليست مجرّد حجاب، إنّما تعدٍّ على الحقوق والحريّات.
محمود جعفر زاده أستاذ علم الاجتماع في جامعة طهران، يقول؛ بأنّ الأساليب التي تستخدمها قوات “الباسيج” أو “شرطة الأخلاق” اليوم لفرض الحجاب، هي نفسها التي استخدمتها الشرطة في عهد الشاه لمنعه. حيث كانت هناك دوريات تطوف الشوارع من وقت لآخر للتأكد من خلوّها من أيّ امرأة ترتدي الحجاب، والاعتداء بالضرب على من ترتديه، وأحياناً كثيرة يعملون على نزعه بالقوة عن رؤوس النساء. وكان مَن يسير إلى جوار امرأة محجّبة، حتى لو كان زوجَها أو أخاها، ينال نصيبه من الإهانات والشتائم.
لم يختلف نمط تفكير معارضي الشاه من الإسلاميين عن الشاه نفسه في مسألة حريّة الملبس، والتعامل معه كحقّ للدولة في الأساس لا للناس، وإن اتّخذ ذلك اتجاهاً مضادّاً، فعندما جاءت الثورة الإسلامية عام 1979، وعاد الخميني إلى إيران، واستتبّ له الحكم، كان أحد أولى قراراته فرض الحجاب الإلزامي على النساء. وُوجه القرار بغضب شعبيّ، وخرجت آلاف النساء إلى الشوارع احتجاجاً على ذلك. حتى النساء اللواتي يضعن الحجاب نزعنه تضامناً مع الأخريات، كما كنّ يفعلن زمن الشاه، حين تخرج النساء السافرات مرتديات الحجاب، تضامناً مع اللواتي يرغبن في الحجاب. وشارك الرجال أيضاً في تلك الاحتجاجات. وتزامن ذلك مع يوم المرأة العالميّ في الثامن من آذار عام 1979. وكان شعارها؛ ”لا نريد عباءة إجبارية”، وسارت المظاهرات من جامعة طهران باتجاه المحكمة العامة، حيث تعرّضوا لهجوم القوات الموالية للحكومة الإسلامية التي رفعت شعار؛ “إما غطاء الرأس أو ضربة على الرأس”.
فكان الحجابُ لزاماً على كلّ النساء في الحياة العامة والدوائر والمدارس وكلّ مكان، ويشمل الإناث صغاراً وكباراً، الطالبات والموظفات، البنات والأمهات، وذلك وفق ما تسميه كتب الشريعة “القواعد من النساء”.
ولم تُجبر النسوة على تغطية شعر الرأس فحسب، بل أجبرن أيضاً على وقف استخدام مساحيق التجميل، ولبس العباءات الطويلة. وما ذلك إلا بداية لسلسلة طويلة من القمع والتهميش.
وكان الخميني ألمح عام 1978، في معرض ردّه على سؤال لصحفي غربيّ حول إمكانيّة النساء الاختيار بحريّة بين الحجاب والملابس الغربية؟؛ إلى ضرورة مراعاة المعايير في ملابسهن دون توضيح ماهيّة تلك “المعايير”، فقال؛ “للنساء الحريّة في اختيار نشاطهن، مصيرهن وكذلك ملابسهن، مع مراعاة المعايير”.
شيرين عبادي، الحقوقية الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل للسلام، التي كانت أوّل قاضية في إيران قبل الثورة، وقد ناصرتها منذ بدايتها، تقول؛ “كانت أياماً عصيبة!.. بعد انتصار الثورة ذهبت إلى مقرّ عملي في وزارة العدل، وقرّرت وقتها أن أهنئ المسؤولين الجدد الذين تولوا مسؤولية الوزارة في حكومة الخميني، لكن بدلاً من أن يقدّم المسؤولون الشكر لي طالبوني بتغطية شعري احتراما لـ”عودة الإمام الى طهران”.
وتضيف عبادي؛ “حينها أدركت أن هذه الثورة ستأكل بناتها”. وبعد أيام فوجئت عبادي بنقلها إلى موقع سكرتيرة المحكمة التي كانت ترأسها، إذ مُنعت النساء من العمل قاضيات في سلسلة طويلة من المنع والتضييق، وبفرض الحجاب على كلّ النساء في المؤسسات الحكومية.
وكان أوّل قانون يتعلق بملابس النساء جرى تشريعه هو المادة 102 من قانون العقوبات، الذي أقرّ وجوب مراعاة الحجاب الإسلاميّ الكامل عام 1984. وأن خلع الحجاب أو وضعه بطريقة غير مناسبة، جريمة تستحق العقاب بالجلد.
لم يكن مجرّد حجاب!
إنّ نظام الملالي، وعلى لسان أحد جلاوزته، يحمّل المرأة المسؤوليّة عن ثلث الجرائم المرتكبة في إيران، فحجابها غير الشرعيّ هو المحرض على تلك الجرائم، كما يدعو النساء للعودة إلى ارتداء الشادور الذي يغطي المرأة بالكامل، ولا يتوانى عن اتّهام السافرات بالفجور.
وفي عام 2009، أصدر الحرس الثوري الإيراني تقريراً، يعدّ فيه ”الحركات النسويّة” في إيران إحدى التحديات الثقافية التي تواجه المجتمع، وتهدّد سلامه واستقراره. أمّا العضوات فيها، فقد اتُهمن بالعمالة للأجنبيّ، والافتتان بالعلمانيّة الليبراليّة..
وفي عام 2014، انتشرت موجة من الهجمات بالمواد الحارقة على النساء اللواتي لم يلتزمن بمعايير الحجاب، والمتّهمون هم “الباسيج”. وأثارت طفلة لم تتعدّ العاشرة من عمرها حفيظة السلطات الإيرانيّة، حين مارست لعبة الجمباز خارج بلادها دون حجاب، وهُدّدت بحرمانها حضور المنافسات الرسميّة التي يرعاها اتّحاد بلادها، وشُكّلت لجنة لمعاقبة الطفلة فور عودتها.
كما عمدت قوّات “الباسيج” إلى رش النسوة اللواتي لا يلتزمن بالحجاب، بماء النار، في حادثةٍ أدّت إلى إحراق وجوه العديد من النساء، حيث قضت إحداهن على أثر ذلك.
لم يكن مجرّد حجاب!
ولا يتوانى نظام الملالي عن الاستمرار في قضم حقوق المرأة، باسم حماية المجتمع، وحماية الأسرة، بتخفيف القيود على تعدّد الزوجات، ووضع العراقيل أمام المرأة في الحصول على الطلاق. ويشرّع اغتصاب الأجنبيّ لنساء بلاده السافرات، حيث لا قانون يحمي السافرة؟!..
وكان عدد من أعضاء مجلس النواب، طرحوا خطة لخصم رواتب الموظفات غير الملتزمات بالحجاب وفق الشريعة الإسلامية.
لكنّ المرأة الإيرانيّة لم تتوقف يوماً عن المطالبة بحقوقها، واجتراح أساليب جديدة للاحتجاج وإسماع صوتها..
فكانت حركة الأربعاء الأبيض. “الأربعاء يوم بلا حجاب في البلاد..”؛ حركة احتجاجيّة على قواعد اللباس المفروضة على النساء، تتيح لهن منبراً للتظاهر.
وينشرن صوراً ومقاطع فيديو لأنفسهن وهن يرتدين أغطية رأس بيضاء، أو يحملن أوشحة بيضاء، رمزاً للاحتجاج.
ولم تقتصر المشاركة في هذه الحملة على النساء، فقد أظهر الكثير من الرجال أيضاً تضامنهم معها، ودعمهم لها، فارتدوا أوشحة بيضاء، وعدّوا إلزامية ارتداء الحجاب إهانة لهم.
أمّا موقع ”حريتي المسلوبة”، فهو حركة على الإنترنت معارضة للزي المفروض على النساء. وقد تلقى على مدى ثلاث سنوات منذ إطلاقه، الكثير من الصور والفيديوهات لنساء حاسرات الرؤوس..
وقالت مشاركة في هذه الحملة إن الأمر ضروري لأنه “من الجدير أن نساعد الأجيال المقبلة، حتى لو أدى بنا هذا إلى السجن، والنوم مع الصراصير”.
وقد لاقت الحملة تجاوباً من أنحاء العالم حتى بين غير المسلمات. أمّا مؤسِّسة الموقع، معصومة – مسيح علي نجاد، فتعيش في المنفى، ولا تستطيع العودة إلى إيران منذ 2009، كما تلقّت العديد من التهديدات بالقتل، ووُصفت بأقذع الشتائم على بعض وسائل الإعلام المرتبطة بالحرس الثوري.
وموقع آخر باسم؛ الحريّة الخفيّة للنساء الإيرانيّات، وهو صفحة على “الفيس بوك” ضد فرض الحجاب، وصرخة بوجه قمع الولي الفقيه، فكان منصة لكسر حاجز الخوف، كما تقول الناشطات، وينشرن من خلاله صورهن سافرات إلى جانب إعلانات حائطية تحثّهن على الحجاب. وقد تجاوز الإقبال على هذه الصفحة الحدود الإيرانية، وسجّل الموقع مئات الآلاف من المعجبين من كلّ أنحاء العالم.
تقول الناشطة ”مسيح على نجاد” مديرة الصفحة؛ ”الإيرانيّات مقيّدات ولا يستطعن اختيار ملابسهن بحرية، ورغم ذلك، فهن يجرّبن أحياناً لحظات قصيرة من الحريّة، والصفحة توثّق تلك اللحظات”.
وعن وكالة الأنباء الإيرانية، فإنّه يتمّ اقتياد العديد من هؤلاء النسوة إلى مراكز الشرطة، وفي بعض الحالات تُحال الملفّات إلى القضاء.
ومع بداية عام 2018، كان للمرأة الإيرانيّة دور قيادي في التظاهرات، وكانت حاضرة بقوة، بل كانت سيّدة المشهد. ولم يخفِ نظام الملالي حقده على النساء، حيث عمد إلى قمعهن بقسوة تفوق قسوته على الرجال. وقد أثرن حفيظته عليهن بقيادتهن المظاهرات، وهتافاتهن الموجهة بشكل مباشر ضدّ الخامنئي.. ضدّ الديكتاتور. ودعت المتظاهرات إلى إسقاط النظام بكلّ رموزه من المرشد إلى الرئيس، ومزقن صورهم، وطالبنهم بإعادة الأموال المسروقة، متعهدات بالاتحاد في مواجهة “قوى قمع النظام”. وكثيرات كن ينزعن حجبهن خلال التظاهرات، أو يرتدين أوشحة بيضاء كرمز للاحتجاج السلميّ.
إنه التعبير عن التوق للتفلّت من سطوة الإملاءات التي تفرض على المرأة الإيرانيّة، بالنسبة لحريتها ولباسها وحركتها وأسلوب حياتها. فكانت ظاهرة خلع الحجاب، أو وضعه رمزاً للخلاص من سطوة القمع والاضطهاد، ورفضاً لأسلوب حياة متكامل فرضته الأنظمة الديكتاتوريّة على المرأة الإيرانية.
إذ لم يكن مجرّد حجاب!
“الشبكة غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقال ويعبّر عن رأي الكاتبة”.